منذ فترة اشتعلت وسائل الإعلام والتواصل الافتراضي بخبر نشرته احدى وسائل الاعلام حول بلوك نفطي يحمل رقم 5، مفاده: “بنتيجة المسح الثلاثي الأبعاد لبلوكات النفط تبيّن أنّ البلوك رقم 5 قد يكون الأغنى بين جميع البلوكات بالإضافة إلى وجود نفط بترول بالإضافة الى الغاز”.
الخبر الذي انتشر كالنار في الهشيم عبر مختلف وسائل التواصل، والذي يركز على البلوك رقم 5 للمرّة الأولى، طرح تساؤلات عديدة حول مدى صحّته وأبعاد تسريبه حاليا، لا سيّما في ظلّ تسويف صهيوني متعمّد للترسيم، وزيارات مطاطة لـ “الوسيط” الأميركي، على وقع بداية جنون جديد في سعر صرف الدولار ومزيد من الانهيار في قدرة المواطن الشرائيّة، وإلحاح رسمي لبناني موحّد على إتمام ملف الترسيم قبل نهاية العهد.
بلوكات لبنان النفطيّة
حول عدد بلوكات النفط التي يمتلكها لبنان وكيف قسمت، يوضح المنسق العام الوطني للتحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة في الصناعات الإستخراجية مـارون الخولي، لـ “الديار” أنّه تم تقسيم البلوكات النفطية في لبنان وفق المساحة البحرية للمنطقة الإقتصادية والبالغة 22700 كيلومتر مربع، ووفق المسوحات الزلزالية الثلاثية الأبعاد، بحيث يكون لكلّ بلوك حقول جاذبة للإستثمار به، وعليه قسمت المنطقة الاقتصادية الى عشرة بلوكات: 1 و2 شمال لبنان و3- 4 -5 6 -7 في الوسط بين الشمال والجنوب، و 8-9 – 10 جنوب لبنان مقابل فلسطين المحتلة، علما أنّ المسح لم يغطي أكثر من 70% من مياه لبنان، وهذا ما يفسر غياب المسوحات عن البلوك رقم 8 خصوصا المناطق البحرية المتنازع عليها بين لبنان والكيان (الإسرائيلي)، والتي تبلغ وفق الخرائط المودعة لدى الأمم المتحدة 860 كيلومترا مربعا، وهي منطقة غنيّة بالنفط والغاز، ومن ثمّ مطالبة لبنان في المفاوضات غير المباشرة، بمساحة اضافية هي 2290 كيلومترا.
حجم الثروة النفطية مجرّد توقّعات
رغم التقديرات من هنا وهناك حول حجم ثروة لبنان النفطيّة، وتضارب الأرقام التي تراوحت بين متدنية جدا ومضخّمة جدا، يظلّ تقدير حجم الثروة النفطية وفق الخولي في إطار التوقّعات التي لا يمكن البناء عليها ولا يجوز اعتبارها أرقاما قابلة للتداول بشكل رسمي، والدليل ما نتج من توقعات بنى عليها أولا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة الأسبق حسان دياب عند افتتاح عمل الباخرة Tungsten Explorer التابعة لشركة “توتال”، والتي تولّت حفر البئر النفطية في البلوك رقم 4، وما نتج من هذا الحفر من خيبة أمل للبنانيين ، لكن هذا لا ينفي أنّ المياه البحريّة اللبنانية واعدة لجهة وجود النفط والغاز، وتبيّن التقديرات الأولية والمسوحات الزلزالية الثنائية والثلاثية الأبعاد أنّ لدينا نحو 30 تريليون قدم مكعب من الغاز و660 مليون برميل من النفط السائل، أي ما يوازي 600 مليار دولار من عائدات الغاز و450 مليار دولار من عائدات النفط، كما أنّ اهتمام شركات النفط الدولية بدورة التراخيص الأولى ودخول الكونسورتيوم “توتال” و”اني” و”نوفوتاك” أكبر دليل على قوة هذه المؤشرات النفطية، وفي حال كانت النتائج ايجابية ستجذب الإستثمارات وتخلق آلاف فرص العمل، ما سيؤدي الى ارتفاع تصنيف لبنان من CCC إلى B1، وإعادة الثقة بالبلد وتحسن الليرة اللبنانية مقابل الدولار، ما سيخرج لبنان من أزمته.
قصة البلوك رقم 5
مؤخرا تمّ إعلاميا، تعويم البلوك رقم 5 على أنّه الأغنى بين بلوكات لبنان النفطيّة، ما يطرح تساؤلات حول مدى دقة هذه المعلومات وخلفيات التركيز على هذا البلوك دون سواه.
يرجع الخولي ما حصل إلى أنّ اللبنانيين يعيشون اليوم على آمال ترسيم الحدود البحرية، وما سينتج عنها من حلول إقتصادية ومالية، والأنظار مشدودة إلى البلوكات النفطية، وأيّ خبر بهذا الخصوص له أهمية، كاشفا أنّ الكلام حول وجود نفط في البلوك رقم 5 ليس له أيّ تأكيد عملي أو فعلي إلّا من خلال عملية الحفر والإستكشاف، لافتا إلى أنّ المسوحات الزلزالية ليست علنية وغير متوفرة للإعلام، ومن يملك جميع البيانات الرسميّة هي وزارة الطاقة والمياه ويمكن لشركات التنقيب الحصول عليها مقابل بدل مالي، وهذا توفّر في دورة التراخيص الأولى والثانية، كما يمكن أن لا تصيب عملية الحفر والإستكشاف مكمن الحقل بأيّ بلوك في المرة الأولى أو العكس، وبالتالي أن نشيع عن بلوكات فيها نفط وغاز أكثر من غيرها أمر غير دقيق، وخلفية نشر الخبر مرتبط بالحديث عن البلوكات رقم 8 و 9 وأخذ الموضوع نحو البلوك رقم 5 يخلق إثارة اعلامية ويشدّ الناس باتجاهه ويخلق ملفا جديدا من شأنه إلهاء الرأي العام عن موضوع الترسيم مع “إسرائيل” بحجّة أنّ هذا البلوك هو الأغنى بالثروة النفطية.
مماطلة العدّو
يتعمّد ويعتمد العدو الإسرائيلي المماطلة في الترسيم، فما دوافعه وهو بأمسّ الحاجة لاستخراج النفط والغاز، وما المتوجب على دولتنا لمواجهة سياسة المماطلة هذه؟
يجيب الخولي أنّ ما يهمّ “إسرائيل” هو أن تستخرج الغاز دون أي اعتراض لبناني خصوصا في الحقول المتداخلة أو المتنازع عليها، وأيضًا ألا يستخرج لبنان الغاز حتى لا يستفيد، ويحقق عامل المماطلة هذه الاهداف الإستراتيجية للعدّو، وما يجب علينا كلبنانيين هو الدفع باتجاه إنجاح مساعي المفاوض الأميركي المنطلق -وفق تعبير الخولي- من معايير جغرافية واضحة لا يمكن تجاهلها ودبلوماسية مرتبطة بالعلاقات الدولية والإقليمية وقواعد لحماية ثروة نفطية وغازية أصبحت اليوم حاجة أساسية للإتحاد الأوروبي بعد الحرب الروسية علما أنّها لا تغطي من كلّ الحوض الأبيض المتوسط أكثر من 10% من حاجة أوروبا من الغاز، كما يجب على السلطة اللبنانية اقتناص هذه الفرصة، وهو أمر غير متوافر فموضوع الترسيم والمفاوضات يخضع للتجاذب الداخلي ولا يرقى إلى مستوى المصالح العليا للبنان، وليس المطلوب تقسيم الثروة بين لبنان والكيان، بل الإستفادة منها بتأمين كامل سلسلة التنقيب والإستكشاف والإستخراج وتسييل الغاز وتكرير والنفط ونقله عبر أنابيب أو بواخر وبيعه في الأسواق العالمية، فلبنان لا يستطيع القيام بذلك لأنّه خارج قدرته، وأي تفاوض لا يبحث توفير هذه السلسة كاملة يكون فارغا وفاشلا.
إسماعيل: الحديث عن البلوك رقم 5 مناورة أميركيّة
الخفايا السياسيّة لهذا الطرح تتجلّى وفق الباحث السياسي الدكتور وسام إسماعيل في أنّ الإشارة لبلوك رقم 5 صدرت عن جهة أميركية، وأن التركيز على أنّه يحتوي نفطا هو نوع من المناورة الأميركية، لأنّ الدراسات أثبتت أن الشاطئ اللبناني والسوري يحتوي وحده على نفط وغاز، بينما يحتوي الشاطىء الفلسطيني والمصري على غاز فقط، وكأنّ الأميركي يقول لنا بأننا نسمح لكم بالعمل في البلوك رقم “5” مقابل التنازل عن جزء من البلوك رقم “8” مقابل حقل “قانا”، لأنّه منذ فترة تمّ الترويج لفكرة وهي أنّ “الإسرائيلي” بصدد التخلي عن حصته (وهي بالأساس ليست حصته) في البلوك رقم “9”، مقابل مساحة معينة في البلوك رقم “8”، وهذه المناورة تهدف لدفع الجانب اللبناني للقبول ببعض الشروط الإسرائيلية والأميركية، ومماطلة العدّو في ملّف الترسيم ليست جديدة ومن أسبابها أنّ العدو الإسرائيلي أصبح واقعا بين “فكّي كمّاشة” إما أن يوافق في هذه المرحلة ويظهر أمام الرأي العام الإسرائيلي على أنه خضع لضغوط المقاومة، وهذا لا يساعده في موضوع الإنتخابات النيابية في الكيان، أو يرفض الترسيم والخضوع لمعادلة المقاومة وفي هذه الحال يمكن أن يعرض نفسه لعمل أمني أو عسكري هو في غنى عنه، لذلك هو معني اليوم بتأجيل مسألة الترسيم الى ما بعد شهر 11 تشرين الثاني، وبذلك ينعدم أي تأثير لها في العملية السياسية الداخلية بالكيان.
جعبة هوكشتاين فارغة
حتى الآن، لم تسفر جولات هوكشتاين المكوكيّة عن خرق في ملف الترسيم، ما يستدعي السؤال حول حصيلة وساطته.
يشير إسماعيل الى أن فكرة أن هوكشتاين هو وسيط نزيه فكرة مغلوطة جدا، فهو يمثل الرؤيا الإسرائيلية، ويعمل على سيناريو يحفظ مصالح الكيان، ويفاوض نيابة عنه، فهو -من خلال المعادلة التي رسمتها المقاومة- لم يعد قادرا أن يضغط على الدولة اللبنانية، وسيحاول البحث عن حل يلغي من خلاله فعالية قدرة المقاومة ومعادلتها، ويعيد الإسرائيلي إلى المرحلة التي كان يملك فيها اليد الطولى في هذا الملف، وعمّا يمكن أن يحفظ المصلحة الإسرائيلية بالدرجة الأولى، كما أنّه غير معني أن يحصل لبنان على حقوقه، فهو يريد الترسيم فقط، ولن يقدم ضمانات تسمح لشركات أجنبية أن تستثمر في لبنان، و”كان يلعب على هذه الفكرة”، وبسبب الحصار المفروض على لبنان سنغرق في التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وربما يأخذ الأمر سنوات الى حين تغير موازين القوى والمعادلة الداخلية في لبنان والغاء مفاعيل المقاومة حتى يسمح للبنان أن يستخرج النفط، من هنا لن يقدم هوكشتاين أي جديد، فأي نتيجة -غير ابقاء الوضع على حاله- ليست في مصلحة الكيان الإسرائيلي.
كرّ وفرّ
حول موقف الدولة اللبنانية واحتمالات الحرب، يؤكد إسماعيل أنّ المرة الوحيدة التي تعاطت فيها السلطة السياسية في لبنان ضمن إطار مؤسساتي هي عندما اجتمع هوكشتاين مع الرؤساء الثلاثة وسمع منهم كلاما موحدا حول موضوع الترسيم، فالمطلوب من الدولة اليوم وحدة قرار ورؤية موحدة للملف ولما يريده لبنان، والإستفادة من قدرات المقاومة وعدم تغليب المصالح الخاصة للسياسيين على المصلحة العليا للدولة، وإن لم يستجب العدو، سيكون هناك رد فعل من جانب المقاومة ولا يجب أن نتحدث فورا عن حرب فخطاب السيد لا يعني الدخول في حرب مفتوحة ولكن يعني أنّ قدرات المقاومة تقدر أن تعطل وتفرض نفسها في البحر والبر، من غير أن يستبعد إسماعيل أن يتطوّر الموضوع الى حرب اذا لم يرضخ العدو للمقاومة، ولكنها لن تكون كما في تموز 2006، فقد نكون أمام عمليات كرّ وفرّ وضربات محدودة .
فيما يؤكد إسماعيل مماطلة العدو فهو لا يريد أن يسلّم ويبحث عن الفرصة المناسبة لالغاء مفاعيل قوة لبنان بإزاحة المقاومة من هذا الملف، ومن مصلحته تمييع الملف في هذه المرحلة، فهو يعمل على موضوع إستخراج الغاز ودخل في اتفاقيات مع مصر وغيرها، ولن يتنازل عن حقل “قانا، ولا يريد ترسيما يحفظ حقوق لبنان، وهو يبحث عن الفرصة المناسبة ليثبت أمرا واقعا يناسبه.
خلاصة القول… بين الحاجة اللبنانية لإنهاء ملف الترسيم، والوساطة الأميركية الملغومة، والمصلحة الأوروبية المأمولة، لا يزال العدّو الصهيوني يناور بفقاعات منها البلوك رقم 5 وسواه، ما يفرض على الدولة التوافق حول إستراتيجية تفاوضية إستثنائية، وفق سلة متكاملة تبدأ مع الحفر وصولا إلى بيع الإنتاج، فما يريد أن يأخذه العدّو بالقوة لا يمكن الحفاظ عليه إلّا بالقوة!