مع توقيع رئيس الجمهورية ميشال عون القانون الجديد الخاص برفع السرّية المصرفية ونشره في الجريدة الرسمية، يدخل هذا القانون حيّز التنفيذ تطبيقا لأحد ابرز شروط صندوق النقد الدولي للسير قدماً بالمفاوضات حول برنامج تمويلي إنقاذي للبنان.
تمرير خطة التعافي المالي والاقتصادي شرط أساسي يفرضه الصندوق قبل التوقيع على الاتفاق النهائي مع لبنان بالتوازي مع إقرار موازنة العام 2022، اضافة الى تمرير قانون “الكابيتال كونترول” وقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الى إقرار تعديل قانون رفع السرية المصرفية الذي أقره المجلس النيابي في جلسته التشريعية الاخيرة. ومع نشر القانون الجديد في الجريدة الرسمية ينطلق العدّ العكسي لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد، خصوصاً أن القانون يلحظ مفعولاً رجعياً في قضايا الفساد وتبييض الأموال والتهرّب الضريبي، من خلال عطفه على القوانين المُقرّة سابقاً ومنها قانون الإثراء غير المشروع وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، اضافة الى قانونَي الأحكام الضريبية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
في مقاربة قانونية لتعديل قانون السريّة المصرفية يعتبر رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص أن “توقيت هذا التعديل ليس نابعاً من اجتهاد نيابي أو إصلاحي من قِبل السلطات أو أي رغبة في التقويم، بل إن إقراره جاء تلبيةً لأحد أهمّ شروط صندوق النقد التي تم الإتفاق عليها خلال التفاوض مع لبنان، وهي تعديل قانون السريّة المصرفية”. وفي تعليقه من الناحية التشريعية والتقنية على القانون يقول مرقص لـ”النهار” إن “هذا النصّ ينطلق وكأن ليس هنالك قانون رقمه /44/ صادر عام 2015 يرفع السرية المصرفية عند الإشتباه جدياً في جرائم الفساد والتهرب الضريبي وسائر الجرائم المالية التي جاء المشروع لينصّ عليها. فالقانون حظر فتح حسابات ودائع “مرقّمة” لا يعرف أصحابَها غيرُ مديري المصرف أو وكلائهم، كما أنه فرض تحويل الحسابات المرقمة والخزائن الحديدية المؤجّرة الى حسابات عادية وخزائن تطبّق عليها كل متطلبات مكافحة تبييض الاموال وتمويل الإرهاب، إلا أن ما لم يتم التنبُّه له أثناء صياغة هذه الفقرة هو أن الحساب المرقّم أصبح أساساً خاضعاً لموافقة استثنائية من إدارة المصرف بعد العام 2001، الأمر الذي تناساه مجلس النواب والحكومة. أما التعديل الذي طرأ على قانون السريّة المصرفية في الصيغة النهائية التي أقرّها مجلس النواب، فهو إشراك كل من القضاء ووزارة المال في صلاحية رفع السريّة المصرفية، بعدما كانت هذه الصلاحية مرتبطة فقط بهيئة التحقيق الخاصة المنشأة بالقانون 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) وبالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”. ويضيف مرقص انه “إنْ لم تكن هناك إشكالية لرفع السريّة المصرفية عند الإشتباه بجرائم الفساد، فاللهيئة الوطنية لمكافحة الفساد صلاحية رفع السرية المصرفية بموجب المادة /19/ من القانون الرقم 175/2020 (قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)، وذلك فقط بعد توجيه طلب إلى هيئة التحقيق الخاصة التي لها صلاحية استنسابية بالقبول أو الرفض، مما يعني أن إعادة ربط صلاحية رفع السريّة المصرفية بهيئة مكافحة الفساد لا معنى لها اطلاقاً لأنها في الواقع هي مجردة من أي صلاحيات إذ عليها موجب الرجوع الى هيئة التحقيق الخاصة”.
عملت الحكومة أولاً على مشروع تعديل قانون السريّة المصرفية قبل إحالته على لجنة المال والموازنة في مجلس النواب ووضعت ملاحظاتها عليه، وكانت قد سمحت ضمن مشروعها برفع السريّة المصرفية من قِبل موظّف المالية أو قضاة النيابات العامة حتى الاستئنافية منها وقضاة التحقيق، من دون وضع معايير واضحة وضامنة للخصوصية، فالمشروع ألزم \المصارف أن تقدّم تقاريرها الى وزارة المال من دون ضمانات لحقوق المودعين التي يمكن أن يحصلوا عليها تجاه الإجراءات التعسفية كإساءة استعمال المعلومات الخاصة أو حتى إساءة طلب هذه المعلومات. أمّا في ما يتعلّق بالمادة السابعة من قانون السريّة المصرفية فقد أعاد مجلس النواب تعديلها بحيث تم ّإلغاء مصطلح “الجرائم المالية الأخرى” واستُبدل بـ”الجرائم المنصوص عليها في المادة /19/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية”، أي إعطاء السلطة للمدعي العام المالي. في هذا السياق يرى مرقص أن “من شأن هذا الإلغاء أن يؤدي إلى حماية المصارف من أي دعاوى مالية تجد المصارف أنها تعسّفية”، ويتخوّف من أنّ “من شأن ذلك ايضا عدم تعداد جرائم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والاكتفاء بالإحالة الى نصّها أن يؤدي ذلك إلى إلزام قضاء التحقيق العودة إلى هيئة التحقيق الخاصة في هذه الجرائم، مما يعني أن الصلاحية الأساسية في الحكم هي لهيئة التحقيق الخاصة”. ويلفت الى “أن ربط عملية رفع السرية المصرفية بقضاة التحقيق حصراً وحصره بنوع محدد من الجرائم من دون توسيع نطاق تطبيقه وفق ما نصّت عليه المادة السابعة من هذا القانون، جعله غير مجدٍ ولا يلبي الأهداف التي أقِرّ من أجلها والتي لدينا علامات استفهام حولها أساسا!”
ألغى مجلس النواب من مشروع الحكومة فقرة في المادة السابعة التي بموجبها كان بإمكان السلطات المذكورة في هذه المادة أن تحصل على معلومات دورية ومنتظمة عن الحسابات المحمية بالسريّة المصرفية، كما أن القانون الذي أقرّه مجلس النواب لم يتضمن أي بند يتناول المفعول الرجعي، ولكن أهمية رفع السرية المصرفية تكمن في المفعول الرجعي الذي يسمح للقاضي بمحاسبة المرتكب على جميع الجرائم المالية التي قام بها سابقاً للملاحقة في السنوات السابقة، وفقاً لآلية ومعايير واضحة. ولكن بحسب مرقص فان “الموضوع الأخطر في نصّ قانون السريّة المصرفية هو إلزام المحامي عدم التقيد بسرية المهنة، وأبعاد هذا النص خطيرة جداً وتؤثر على مهنة المحاماة، كما أنها تنتهك الإتفاقات الدولية ذات الصلة”. وبعيداً من التّقنيات، يعتبر مرقص “أنّ هكذا قانون كان ليُبحث فيه، أو ليصلح، لو كانت في لبنان “دولة حقوق” توحي الثقة وتبعث الطمأنينة في نفوس المواطنين والمكلّفين وقوانين تحمي الخصوصية حتى يفرجوا عن تفاصيل حساباتهم، وسبق لنا أن حذرنا من مخاطر إلغاء قانون السريّة المصرفية وتقويضه لما له من آثار سلبية على ما تبقى من القطاع الإقتصادي اللبناني، فلطالما تعاظمت الدعوات وتفاقمت الضغوط لأجل تقويض السرية المصرفية في لبنان تحت ذريعة ضرورة مكافحة الفساد وتبييض الأموال.” ويضيف: “رغم الأهمية التي تميز بها قانون السريّة المصرفية على مدى سنوات لجهة دعم الثقة بالإقتصاد القومي والقطاع المصرفي، وتشجيع الإستثمار، لا تزال السلطة السياسية تستجيب تلقائياً للمطالب الخارجية وتقضي على ما تبقى من سمات تميّز القطاع المصرفي اللبناني الذي يصارع للبقاء صامداً، فلماذا نخسر ما تبقى للبنان من مزايا؟ وتبعاً لأي كلفة وثمن؟”.
عندما أقرّ قانون السريّة المصرفية عام 1956، ساهم بشكلٍ كبير في جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية من ناحية، ومن ناحية أخرى في تعزيز مكانة القطاع المصرفي اللبناني وفي منحه لقب “سويسرا الشرق”، ذلك لأن السريّة المصرفية شكّلت ركناً أساسياً من أركان الإقتصاد الوطني القائم على النظام الإقتصادي والمصرفي الحرّ وما يستتبع ذلك من حرية تحويل الرساميل وفتح الحسابات المصرفية المشتركة والفردية من أي عملة كانت. وتكمن خصوصية النظام الذي أرساه قانون السريّة المصرفية في لبنان لعام 1956، في المحافظة على ثبات القطاع المصرفي اللبناني وصموده رغم كلّ الأزمات الاقتصادية والمصرفية التي مرّت بها البلاد على مدى سنوات طويلة. فالجرائم المالية عابرة للحدود، ولم تكن السريّة المصرفية عائقاً أمام إلتزامات لبنان تجاه الخارج، وخارجيًا لم يعد هناك عملياً سريّة مصرفية بالتعامل مع لبنان، وهذا الأمر يُلاحظ أولاً من النظام الضريبي العالمي الذي انضم إليه لبنان، فتوقيع لبنان على معاهدات تفرض تبادل المعلومات الضريبية، أدى إلى إلغاء السرية المصرفية أمام الإدارات الضريبية الأجنبية، لاسيّما منها الأميركية، والتزامه بنود قانون “FATCA”، إضافة إلى التبادل الضريبي CRS. وموجب حفظ السريّة المصرفية وفق قانون عام 1956 يخوّل المصرف الاحتجاج به بوجه أي سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية وفقاً لما نصّت عليه المادة الثانية منه، وإفشاء السريّة المصرفية أمام القضاء يقوم في ما يتعلّق بدعاوى الإثراء غير المشروع.