الجمعة, نوفمبر 22, 2024
الرئيسيةأخبار لبنان اليومانفجار بيروت..ذكرى الحرب التي هزمتنا

اضغط على الصورة لتحميل تطبيقنا للأخبار والوظائف على مدار الساعة 24/24

spot_img

انفجار بيروت..ذكرى الحرب التي هزمتنا

انضم الى قناتنا على الواتساب للأخبار والوظائف على مدار الساعة 24/24

spot_img

انضم الى قناتنا على التلغرام

spot_img

انضم الى مجموعتنا على الفيس بوك

spot_img

تعود الصور إلى السطح مجدداً. قديمة فيها نبتة الفطر البيضاء التي تنفلش فتسحق الأبنية والزجاج وتسقط السقوف وتقذف الأجساد بعيداً. قديمة تسير الكاميرا بها في الشوارع فتلتقط وجوهاً دامية وأكفاً تضغط على النزيف في الرؤوس. تلتقط فراغاً كئيباً في العيون. قديمة فيها عروسان يتصوران في وسط بيروت قبل أن يعصف فيهما الهواء والركام. أطفال ومربياتهم الآسيويات على شرفات واسعة ينهار زجاجها عليهم. سيدة تعزف البيانو فوق خراب بيتها الذي يبدو حبها الأول والأخير. صور قديمة وقد شاهدناها مراراً، ومع ذلك نشاهدها من جديد، لا نعرف ما الذي يسوقنا إلى هذا العذاب. نشاهد الفطر الشيطاني في كل مرة كأننا نراه لأول مرة، كأنه البارحة كان انفجار بيروت.

 

ولكل، في بيروت، حكايته الخاصة عن الانفجار يرويها كأنها بدورها مرته الأولى. كيف سقط السقف عليه، كيف ظن أن حرباً بدأت، كيف تخلعت أبواب بيته، وكيف حتى ما زال يحمل ذنب أنه في تلك اللحظة كان أنانياً حين اطمئن قلبه بعدما اتصل بأفراد عائلته واكتفى بأن وجدهم بخير، فلم يتصل بأحد غيرهم. ثم، بعد سنتين، بقي يلوم نفسه.

 

لكل حكايته مع الانفجار، كأنه حرب كاملة، كثيفة وهائلة وبالغة البشاعة، مرت في بضعة ثوانٍ فقط، ولم تنته بعد.

 

حرب تامة. الحرب الوحيدة التي، لسخرية القدر، توحد فيها اللبنانيون تماماً، هم الذين لم يتوحدوا على شيء من قبل، لا على البلد ولا على هويته، ولا على أعدائه وأصدقائه، ولا على اتفاقاته الموؤودة أو المستدامة، ولا على حروبه المديدة.

 

حرب هائلة مزقت وجوه الناس واقتلعت أطرافها، وقضت على ما كان متبقياً من أمل وهمي  في قلبوها بأن خلاصاً لا بد سيأتي، أن حبلاً ما سترميه السماء إليها لتنقذها من غرقها الدائم. أن لا شك بأن زمرة المعتوهين التي تتولى أمور سلطاتها وطوائفها ونكباتها لن يصل بها الحد إلى تفجير المدينة كلها، بما فيها، بمن فيها. كان الناس ينتظرون منهم أقل الواجب، أن لا يصل فسادهم ووضاعتهم إلى هذا الدرك. حتى هذه القشة لم ترم للغرقى، بل رميوا بدلاً منها بقنبلة شبه نووية.

من اللحظة الأولى للانفجار احتار اللبنانيون كيف يلملمون جرحهم ويحاولون، في الآن نفسه، رد خسّة الخسيسين عنهم. من أين لهم، فعلاً، هذه القدرة على اجتراح الحقارة، كأنهم نبع لا ينضب منها؟ كأنه انفجار آخر، كأنها حرب أخرى، كأنه ما عودوا الناس عليه، أن تكون الحياة إلى هذا الحد رخيصة، وأن تكون الروح إلى هذه الحد سائبة، وأن يكون التبرؤ من القنبلة الموقوتة جاهزاً قبل انفجارها بقليل، والهروب من المسؤولية عنها، وطمس حقيقة الكارثة صلباً وعنيداً وإلى هذه الدرجة وقحاً، بعد عامين، وأكثر بكثير، على انفجارها.

 

النظام اللبناني فعل هذا باللبنانيين. ليست السلطة الحالية فقط. ثقافة النظام الراكب على الأكتاف منذ الأزل. ثقافة انعدام النبل. ثقافة الجبن من تحمل المسؤولية ولو الأخلاقية، عن الجريمة. ثقافة انتهاز مصيبة كبرى في حسابات الأزقة. ثقافة اللا دخل لي في ما حدث، سائلوا غيري. ثقافة أن يكون الواحد منهم مسؤولاً وقائداً ورئيساً وزعيماً وكبيراً حتى يطرح سؤال المسؤولية فيتحولون فئراناً خائفة، قبل أن ينقلبوا فجأة غرباناً على جيفة بلد.

 

لن نعرف لماذا انفجرت بيروت كما انفجرت في الرابع من آب. سنتذكر فقط، ونتعلق بأهداب أهراءات ستسقط حكماً بينما سيظل وحش الحديد المنتصب في المرفأ ببشاعته شاهداً، عن غير قصد صانعه، على وجه النظام. لن نعرف الحقيقة ولن يُحاسب أحد. النظام القائم لن يحاكم النظام القائم. وقد جددناه هو نفسه قبل بضعة أشهر، وعاد أصلب وأقوى. خسرنا فرصتنا بأن نلفظه، مع أنه في الرابع من آب شن حربه علينا جميعاً. وحّدنا في قتلنا، وعدنا فعبدناه وحده، لا بديل له. لا نعرف غيرهم ولا نطمئن في كهوف طوائفنا إلى غيرهم. بالهناء والشفاء الدم الذي امتصوه ويمتصونه وسيمتصونه من أعناقنا. من نحن إلا رعيتهم المخلصة، ومن هم إلا الرعاة مصاصو الدماء؟

 

وحدونا بقتلنا، ومن كان يتمنى غير ذلك؟ الآن، بعد سنتين على الانفجار، نخاف من إلصاق صفة الذكرى به، لأن ندباً على خد طفلة ما زال محفوراً في خيالنا ونحلم بأنه سيزول يوماً، وتبقى ابتسامتها ونظرتها صوب السماء. الآن، لأن ليليان شعيتو استفاقت من غيبوبتها فاعطوها دمية بدل طفلها الممنوع عنها. الآن، لأن لارا حايك ما زالت في غيبوبتها، وأمها تنتظر من ابنتها أن تعود كما كانت، ملآنة بالحياةز الآن، لأن آلاف الضحايا الأحياء يبحثون عن شفاء جسدي ونفسي، عن معنى للصمود. الأن، لأن عائلات كالأم الحزينة، تبحث عن سبب، أقل سبب يعزيها، يخفف قليلاً من وجع فقد الذين قتلوا ظلماً، وما من يعزيها. الآن، لأن شعباً لا ترف لديه لأن يسائل في ماضٍ مضى، وحاضره يدور حول وجود الخبز في الفرن من عدمه.

 

لا خلاصة لهذه السطور تفتح باباً على أمل ما، ضئيل، كاذب، بعدالة ستتحقق، أو على الأقل بقصاص سيأتي، كما في الكتب المقدسة، من السماء. لا. لقد خاضوا حربهم علينا بجدارة نذل عتيق وانتصروا علينا. هزمونا. وكافأناهم كما لم يكافئ مهزوم عدوه على انتصاره من قبل. كأننا، جميعاً، تطوعنا لأن نكون عملاء.

 

كل ما تبقى هو ما في عيون وقلوب قليلة من حقد واعٍ عليهم جميعاً، ككل واحد كريه. وهذا حقد ما لم ينفجر مرة ثانية، فإنه لا يفيد. سيصير الرابع من آب ذكرى، وقد لا يمر وقت طويل قبل أن ننسى ذكرى الانفجار، ذكرى الحرب التي وحدتنا، ذكرى الحرب التي هزمتنا. الحرب التي قتلتنا جميعاً.

المدن – جهاد بزي

Ads Here




مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة