نشر موقع “ناشيونال جيوجرافيك” تقريراً أعدَّه البروفيسور جان بيير اسبوتس، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة فيلدينج للدراسات العليا، يتحدث فيه عن خمس تنظيمات سرية، وخلُص الكاتب إلى أن الطوائف والتنظيمات السرِّية موجودة منذ آلاف السنين، بداية من عرَّافة معبد دِلفي وصولًا إلى الماسونيين.
يستهل الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن التنظيمات السرية برزت منذ ظهور أولى الحضارات العظيمة، بدايةً من الطوائف الدينية، ومرورًا بالتنظيمات السياسية، ووصولًا إلى الأخويات الجماعية. وكان أعضاء هذه التنظيمات، بما في ذلك الفلاسفة، والفنانون، والرؤساء، بل روَّاد الفضاء، عادةً ما يُجرون أعمالهم سرًّا ويُخفون نشاطاتهم، وهوياتهم في بعض الأحيان عن عامة الناس.
واستخدم بعضهم مصافحات، ورموز سرية، فيما ارتدى آخرون ملابس أو مجوهرات تحمل شفرات. وقد أطاحوا بعض الحُكَّام، وأعادوا تشكيل الأمم، وأثَّروا في الكُتَّاب والفنَّانين، وغيَّروا طريقة تفكير الأشخاص عن الإله، ولا يزال هؤلاء موجودين حتى الآن.
فماذا كانت تفعل هذه التنظيمات في الخفاء؟ وما السر الكامن وراء طقوسها الغامضة؟
يقص الكاتب علينا فيما يلي الحقيقة الكامنة وراء بعض التنظيمات الأكثر سرية على مرِّ التاريخ.
في اليونان القديمة كان يذهب الناس إلى العرافين بحثًا عن أجوبتهم الملحة عن الحكمة الآلهية، وكانت عرَّافة معبد دلفي الأكثر تأثيرًا في تلك الحقبة. وكان يقع المعبد الضخم للإله أبولو في قلب حرم دلفي الذي كان في معظم الأيام بمثابة دار للعبادة، بعد ذلك وصل إلى ذروة تأثيره بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد.
أصبح المعبد حينها مخصصًا لعمل العرَّافين لمدة تسعة أيام في العام، حيث تستقبل وسيطة خاصة تدعى «بيثيا» عددًا من الزوار المُختارين (الذين يقدمون تبرعات كبيرة مقابل زيارة العرَّافة).
يذكر الكاتب أنّه في اليوم المُحدَّد للزيارة، كانت بيثيا، التي عادةً ما تكون شابة من سكان جزيرة دلفي، تشرب وتغتسل في مياه ينبوع كاسوتيس (Kassotis)، ثم تدخل المعبد لتعود إلى مكانها في حرم داخلي يُدعى “أديتون”. ولا تتحدث العرَّافة بنفسها على الإطلاق.
وبدلًا عن ذلك فوفقًا للمؤرخ اليوناني بلوتارخ تدخل بيثيا في حالة نشوة وتستنشق «أبخرة» غامضة، ثم تتلوَّى، وترتعش، وتُتَمتم بأصواتٍ وصرخاتٍ غريبة. ويفسِّر القساوسة هذه التمتمات، ويقدمون ردًّا يعطيهم قوة كبيرة، لا سيما إذا كان السؤال يتعلق بأمور سياسية مهمة.
يضرب الكاتب مثالًا آخر لطائفة الأسرار الميثرائية، وهي طائفة سرية نشأت في القرن الأول الميلادي جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية (ويرجع الفضل في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ إلى شعبيته بين القوات الرومانية) تأثرت بالإله الهندي الفارسي المعروف باسم ميثرا أو ميثراس، الذي يُعتقد أنه وُلِد من صخرة. وبعد تصوير ميثراس على أنه إله شبيه بالمُخلِّص، غالبًا ما كان يظهر هذا الإله وهو يذبح ثورًا، أو يشارك مأدبة طعام مع إله الشمس، المعروف باسم (سول).
ولا يُعرف الكثير عن الأعمال الداخلية الخاصة بهذه الطائفة، على الرغم من أنه من الواضح أن تركيزها انصبَّ على تمجيد الحروب، والتغلُّب على الشرور، وتحقيق الخلاص. وللانضمام إلى هذه الطائفة، يجب على جميع المتقدمين اجتياز سبعة مستويات معقَّدة من الطقوس، بما في ذلك تقديم قرابين حيوانية، قبل قبولهم أعضاءً يتمتعون بالحقوق كافة أو “سينديكسيوي” (أي المتحدون بمصافحة الأيدي، وليس بقَسَم الولاء الرسمي بعد).
ويجتمع ما يصل إلى 30 مصليًا في ساحة تشبه الكهف تُعرف باسم “ميثرايوس” (اكتشف علماء الآثار أكثر من 45 من 680 ميثرايوس على الأقل في روما وحدها) لمشاركة وجبة تتكون من الخبز والنبيذ من أجل إجراء طقوس سرية أمام نقش يجسِّد الإله ميثرا وهو يقتل ثورًا. وشكَّلت هذه الطائفة في أوجِّها تحديًا كبيرًا لديانة أخرى سريع النمو: وهي المسيحية. وفي الحقيقة اضطهد المسيحيون الأوائل أتباع هذه الطائفة التي تعرَّضت للقمع بحلول نهاية القرن الرابع.
بحسب الكاتب حقَّقت الحملة الصليبية الأولى فقط، من أصل سبع حملات صليبية كبرى أُطلقت لتحرير الأرض المقدسة من الحكم الإسلامي، مكاسب ملموسة، وآية ذلك أنها بسطت سيطرتها على مدينة القدس عام 1099 وقتلت معظم سكانها اليهود والمسلمين الذين حاولوا الدفاع عنها. وألهمت الحركة الصليبية تأسيس كثير من التنظيمات العسكرية والدينية التي كرَّست نفسها للاحتفاظ بالأراضي المقدسة والدفاع عنها، ولعل أشهر هذه التنظيمات يتمثَّل في فرسان المعبد.
تشكَّل تنظيم فرسان المعبد عام 1119 تقريبًا عندما كلَّف بالدوين الثاني، ملك القدس آنذاك، مجموعة من الفرسان بحماية جميع الحُجَّاج المسيحيين القاصدين الأرض المقدسة، وكان من السهل التعرُّف على فرسان المعبد من خلال ثيابهم البيضاء المرسوم عليها صليب أحمر. وقد طوَّر فرسان المعبد خبرات خاصة في مجال التمويل، وسرعان ما أصبحوا إحدى أقوى مؤسسات الفرسان، حتى أن الفضل يُنسَب إليهم في تطوير نظام مصرفي جديد.
وبعد هزيمة الصليبيين في موقعة فتح عكا عام 1291، وإجبارهم على الفرار من الأراضي المُقدَّسة إلى قبرص، لم يفصح فرسان المعبد مطلقًا عن مهمة جديدة. واستغل الملك فيليب الرابع، ملك فرنسا الذي كان مدينًا بشدة لهذا التنظيم، حالة التخبُّط وسمعة التنظيم السري، في اعتقال معظم قادته في فرنسا. كما أعدمهم فيليب الرابع حرقًا بتهم مُلفَّقة، وهو ما أدَّى إلى زيادة غموض هذا التنظيم.
وفي عام 1307 صدرت أوامر رسمية تقضي بحل التنظيم، ولكن أسطورته لا تزال قائمة. واليوم، تدَّعي عِدَّة تنظيمات سرية في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، أنها تنحدر من تنظيم فرسان المعبد، بما في ذلك الجمعية الفرنسية للفرسان، التي تحظى بدعم الفاتيكان.
يلمح الكاتب إلى أن الماسونيين اشتهروا بمآزرهم البيضاء، ومصافحاتهم السرية، ورموزهم الغامضة، كما يزعمون أنهم ساعدوا في التخطيط للثورتين الأميركية والفرنسية، فضلًا عن تخطيط تصميم العاصمة الأميركية واشنطن. ونظرًا لأذرعها المنتشرة في جميع أنحاء العالم، شملت قائمة أعضاء الماسونية جورج واشنطن، وفولتير، وولفجانج أماديوس موزارت، وهاري هوديني، وفرانكلين روزفلت، وونستون تشرشل، وجيرالد فورد، وباز ألدرين.
وتُعد أصول هذا التنظيم الغامض مجهولة، ولكن يُعتقد أنه بدأ في أوروبا منذ العصور الوسطى. وكان الأعضاء الأوائل عبارة عن نقابة من عمال البناء، أو الحجارة المحترفين، الذين أُتيحَت لهم سُبُل السفر إلى مدن وأراضٍ مختلفة، على عكس معظم عامة الناس، وهو ما أعطى هؤلاء الحرفيين نظرة عالمية فريدة وتحرُّرية تجاوزت العادات المحلية.
ومع مرور الوقت قلَّل الماسونيون من أهمية الأعمال الحجرية، عندما ناقشوا أفكارًا فلسفية وفكرية غربية راسخة في عصر التنوير، بما في ذلك مناهضة النظام الملكي والحكومة الدستورية والحكم الجمهوري. وباعتباره مجتمعًا غير ديني وغير سياسي، حدَّدت الماسونية مجموعة جديدة من القيم الأخلاقية والروحية، التي ترسَّخت من خلال سلسلة من الاحتفالات والطقوس، التي حقَّق الأعضاء من خلالها تقدمًا ثابتًا في رتب التنظيم (من خلال استخدام فن الحجارة باعتبارها استعارة إرشادية، بعد أن ارتقوا من مهنيين إلى عمال ماهرين، ثم ماسونيين).
ويظل الماسونيون تنظيمًا مزدهرًا حتى يومنا هذا، في ظل تكريس وحدات أعضاء تابعه له في جميع أنحاء العالم جهودها للأعمال الخيرية وغيرها من الأعمال الجيدة.
وينتقل الكاتب إلى الصين، حيث تشكَّلت طائفة تيانديهوي أو مجتمع السماء والأرض، باعتبارها طائفة دينية يقودها قادة مؤثرون في مقاطعة فوجيان خلال القرن الثامن عشر المضطرب في الصين. وقد أجبرت سلالة تشينج الحاكمة طائفة تيانديهوي على ممارسة أعمالها سرًّا؛ لتصبح حركة مقاومة شرسة ضد حُكَّام تشينج والمانشو. ولجأت الطائفة إلى السطو المُسلَّح من أجل الحفاظ على استقرارها المالي.
وألهمت طائفة تيانديهوي تنظيمات أخرى، بما في ذلك تنظيم يأخذ الطابع الماسوني، ويُعرف باسم “هونجمين”. وضمَّت قائمة أعضاء التنظيم “صن يات سين”، مؤسس أول جمهورية في الصين، والجنرال شيانج كاي شيك، مؤسس تايوان.
وظل بعض الأعضاء مخلصين لمبادئ الوطنية والولاء والعدالة التي أرستها طائفة تيانديهوي، ولكن انجرف آخرون إلى الأعمال الإجرامية، المستوحاة من ميل تيانديهوي إلى أعمال السطو على غرار روبين هوود. ولعل أبرز هذه المجموعات هي مجموعة تُعرف باسم الثالوث (تريادز)، التي تعد اليوم إحدى أكبر عصابات الجريمة الآسيوية في العالم، وهو ما ختم به الكاتب تقريره.