كثيرة هي الوعود بقرب انتهاء أزمة الخبز، لكن يبدو أنّ الطوابير لن تختفي من أمام الأفران على امتداد الأراضي اللبنانية كافّة، بل ستستمرّ بين صعود وهبوط كما في السابق، وسيستمرّ الـShortage في مادّة القمح مع اقتراب موعد وصول كلّ باخرة، طالما أنّ الدعم على القمح قائم، والحرب الأوكرانية – الروسية مستمرّة، وعملية إخراج الحبوب العالقة خلف البحر الأسود متعثّرة.
لا سبيل إلى اختفاء الطوابير كلّيّاً وعودة الخبز إلى الأفران والسوبرماركت والدكاكين بشكل تامّ كالمعتاد، إلّا برفع الدعم. تماماً كما حصل مع البنزين والمازوت. هذا باعتراف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي أعرب عن استعداده لرفعه مشترطاً التصويت على ذلك. وهذا يعني أيضاً أنّ رفع الدعم أمر غير متوافر حالياً لتعذّر التصويت أوّلاً، وثانياً وخصوصاً بعد موافقة البرلمان على قرض البنك الدولي البالغ 150 مليون دولار من أجل دعم القمح، إذ يستحيل أن يوافق البنك الدولي على القرض من أجل القمح ثمّ تقوم الحكومة برفع الدعم عنه!
ربّما ترى الحكومة في دولارات القرض فرصة من أجل تقديم أيّ “إنجاز” للناس في زحمة الإخفاقات والأزمات التي تتكدّس فوق رأسها ورؤوس اللبنانيين مع انسداد الأفق الحكومي وتأجيله إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. لكنّ الأكيد أنّ تجّار القمح والمطاحن والأفران على السواء يجدون في دولارات هذا القرض فرصة “لا تُفوّت” من أجل تحقيق المزيد من الأرباح، إن كان عبر التهريب أو عبر التلاعب بطريقة استخدام هذا الطحين وصناعة سلع غير مدعومة و”كسّيبة” مثل المناقيش والكرواسان والكعك وقوالب الغاتو، وغيرها، وبالتالي حجبه عن صناعة الخبز اليومي المدعوم
نصف مليون $ يومياً؟
في حديث صحافي قال وزير الاقتصاد أمين سلام إنّ الأزمة ستشهد حلحلة، وإنّ قيمة قرض البنك الدولي البالغة 150 مليون دولار تكفي لفترة 9 أشهر.
من المؤكّد أنّ الحلحلة التي يتحدّث عنها سلام لن تكون إلّا مرحلية في سياق الفوضى التي نراها في الأداء الحكومي وداخل وزارة الاقتصاد وعلى أبواب الأفران. بهذا الكلام يحاول سلام أن يوصل إلينا فكرة مفادها أنّ كلفة كلّ شهر من هذا القرض ستكون 16.6 مليون دولار، أي ما يوازي 555 ألف دولار يومياً، لكن لن يكون معروفاً: كيف سيُوزّع القمح والطحين المدعوم بهذه المبالغ على الأفران؟ وفق أيّ معايير؟ هل يُراعى عدد فروع الأفران؟ هل ثمّة حظوة لصاحب هذا الفرن وذاك؟ هل هناك تدخّلات حزبية أو كوتا مناطقية أو طائفية في التوزيع؟ هل من “خزعبلات” أو وسايط أو سمسرات أو ألاعيب à la libanaise؟
لا إجابات واضحة من وزير الاقتصاد عن هذه الأسئلة سوى تعهّده بتوزيع كميّات الطحين على الأفران “بشكل عادل”!
أين يُصرف هذا الكلام؟
الأكيد لا يُصرف عند وزير الاقتصاد ولا في وزارة الاقتصاد، وإنّما يُصرف حصراً في مصرف لبنان، الذي يقوم منذ بداية الأزمة مقام الحكومة، بل مقام السلطة كاملة في التشريع والتنفيذ بواسطة سيلٍ من تعاميم لم تتوقّف.
يخبرنا لسان حال مصرف لبنان، من غير أن يتفوّه بأيّ كلمة أو تصريح، أنّ “الدعم” يستحيل أن يستمرّ على القمح والبنزين في آن معاً. هو يقول للحكومة ما معناه: إن كنتم تريدون دعم القمح بواسطة قرض البنك الدولي، فليكن، لكن اتركوا لي أمر البنزين. وقد وصلتنا إجابة مصرف لبنان في ما يتعلّق بالبنزين، إذ قام قبل أيام بتحرير الدعم (من دولارات المصرف على سعر صيرفة) بنسبة 15%، على أن تتكفّل المحطات بتوفيرها من “السوق السوداء”، وعلى أن يقوم هو بتغطية بقية الـ85% على سعر منصّة صيرفة.
هذه بداية النفق، ويبدو أنّ مصرف لبنان سيستمرّ برفع هذه النسبة رويداً رويداً إلى حين تحرير سعر البنزين بالكامل. وقد بدأت بعض الصحف تروّج لهذا السيناريو مرجّحة أن تكون الخطوة المقبلة رفعها إلى 30%. بهذه الطريقة يصبح المستوردون مضطرّين إلى الحصول على كلّ الدولارات من “السوق السوداء”، طالما أنّ المصرف المركزي عاجز عن ضبط العرض والطلب على الدولار عبر منصّته “صيرفة”، ويبدو أنّها ستستمرّ على عجزها طالما أنّ المركزي مدّد العمل بمفاعيل التعميم 161 حتى نهاية شهر آب المقبل فقط حتى الآن.
بمعزل عن كون رفع “الدعم” عن البنزين خطوة صحيحة أم لا (وهي مؤلمة لكنّها صحيحة طبعاً)، فإنّ رفع النسبة، ولو بالتدرّج، سيؤدّي حكماً إلى رفع سعر صرف الدولار في “السوق السوداء”، الذي بدوره سيؤثّر على أسعار السلع كافّة، ومن بينها الخبز أيضاً (ثمن التوزيع والأكياس واللوجستيات…)، وقد بدأنا نشهد تحرّكه في السوق قبل أيام، إذ استقرّ، إلى حين، عند سعر 30 ألف ليرة للدولار الواحد، فيما التحليق مجدّداً يلوح في الأفق!