تحوّل صندوق النقد الدولي الى حائط مَبكى، والى صندوق بريد للرسائل المشفّرة، والى حلبة صراع نقل اليها اللبنانيون تجاذباتهم الداخلية. انها «لعنة» اللبننة التي انتقلت الى واشنطن، من دون أن يعني ذلك، انّ قرارات ادارة الصندوق تتماهى مع عشرات وربما مئات الآراء والاجتهادات التي تَرد اليها بشكل دائم من جهات لبنانية.
قد يكون الجانب المُضيء في سياسة صندوق النقد الدولي التي تطورت مع الايام والتجارب، مرتبطاً بمسألتين أساسيتين تمّ تعديلهما:
أولاً – اعتماد سياسة الأنسنة في التفاوض مع الحكومات على برامج التمويل، وهذا الامر لم يكن قائماً في السابق. وهو يعني انّ سياسة الصندوق باتت تُلزم المفاوضين من قبله بإلزام الحكومات بإجراءات لحماية الطبقة الفقيرة في المجتمع. وفي العادة، يكوّن الفقراء اكثرية في البلدان التي تحتاج الى مساعدة صندوق النقد. ومن هنا، يمكن تفسير الشروط التي يضعها الصندوق لجهة تخصيص قسم كبير من الانفاق في الموازنة لدعم الطبقات المسحوقة في المجتمع، او التي ستتضرّر بقوة جرّاء الخطوات الاصلاحية المطلوبة لإعادة الانتظام الى المالية العامة في الدولة. ورغم ان البعض يعتبر ان اعتماد هذا النهج، لم يكن بدافع انساني، بل يستند الى تجارب سابقة أدّت فيها إجراءات سحق الفقراء الى اضطرابات امنية وثورات وحركات عصيان ساهمت في تعطيل مفاعيل خطط الانقاذ، إلا أنّ النتيجة جيدة، لأن تخفيف معاناة المواطنين حيال مفاعيل الاجراءات الاصلاحية الموجعة امر ايجابي في النتيجة.
ثانياً – توسيع مروحة التفاوض حول خطط الانقاذ، بحيث لا تنحصر في الحكومات والجهات الرسمية، بل تتعداها الى القوى السياسية المتنوعة والى المجتمع المدني بكل تلاوينه وجمعياته ومنظماته وتناقضاته. وهنا ايضا يقول البعض ان هذا النهج يهدف الى ضمان خفض مستوى الاعتراضات الشعبية على خطط الانقاذ التي يتم التفاهم على تنفيذها. في حين ان الصندوق يعتبر في فلسفته انّ هذا النهج يساعده على تَفهُّم وضع كل بلد على حدة، والاطلاع على الرأي والرأي الآخر، والافادة من الافكار والمقترحات التي قد تقدمها جهات من المجتمع المدني تمتلك الرؤية للمساعدة في خطط الانقاذ المالي والاقتصادي.
انطلاقاً من النقطة الثانية، ولأنّ المجتمع اللبناني مجتمع ديناميكي ناشط، ولديه ما هبّ ودبّ من الافكار والخطط والملاحظات والاعتراضات والنميمة، تحوّل البريد الالكتروني في صندوق النقد المخصّص للتواصل مع الملف اللبناني الى ساحة صراعات لا تهدأ. كما ان كل مسؤول في الصندوق تعرّف الى طرف لبناني، بات في موقف صعب لأنه يتلقى الرسائل او الاتصالات من هذا الطرف للاستفسار او ابداء الرأي او الاعتراض…
واذا كانت خطة الانقاذ في حدّ ذاتها هي بيت القصيد في هذا الصراع اللبناني على «أرض» صندوق النقد، فإنّ الملفات المتفرّعة تحظى بدورها بنصيبها الوافر من التجاذبات. وكل اجراء مطروح ضمن الخطوات المطلوب من لبنان تنفيذها لتمهيد الطريق امام الاتفاق مع صندوق النقد، يتحوّل الى مواجهة متعددة الأطراف، تصبّ كلها في بريد صندوق النقد. وهذا الأمر حصل على سبيل المثال، في ملف تعديل قانون السرية المصرفية، بحيث ان صندوق النقد تلقى مئات الرسائل حول هذا الموضوع. وتراوح مضمون «الرسائل» بين المؤيّد لإلغاء السرية المصرفية بالكامل، الى المُطالِب بالتمسّك بنقطة المفعول الرجعي لأنها تتيح المحاسبة، الى من يقول ان المشكلة تكمن في المرجعية التي يحق لها تنفيذ رفع السرية المصرفية، الى من يعتقد ويقترح الابقاء على القانون كما هو لأن المشكلة في مكان آخر، وتكمن في استقلالية القضاء…
ورغم ان صندوق النقد سبق وعَيّن مندوباً دائماً مقيماً في لبنان لكي يتولى عملية التواصل مع الداخل اللبناني، إلا أن ديناميكية اللبنانيين، سمحت لهم حتى الان، بإشغال المندوب والادارة المركزية للصندوق في آن.
في النتيجة، لا يعني هذا النشاط الاستثنائي أنه سلبي في المطلق، فهو في جانب منه مفيد فعلاً، ويساعد الصندوق واللبنانيين في آن. لكن ما هو مقيت انّ قسماً من هذا النشاط تحوّل الى نميمة وتصفية حسابات لا علاقة للصندوق بها. هذا المناخ من الثرثرة الرخيصة، قد يؤثر سلباً على قدرة الصندوق على التفاعل عملياً مع الآراء الجيدة، وقد يذهب الصالح بجريرة الطالح، بحيث يصمّ الصندوق آذانه عن الاستماع، تحاشياً للانخراط في لعبة اللبننة، التي يمكن الدخول اليها بسهولة، لكنّ المشكلة تكمن في الخروج منها بلا خدوش وكدمات وأضرار.
انطوان فرح – الجمهورية