يستمرّ «بلد العجائب» في تسجيل سوابق، تبدأ في السياسة واستحقاقاتها، وتمرّ بالقضاء وبعض «عراضاته»، ولا تنتهي بالانهيار المالي و«حممه» المُتَطايرة في كل اتجاه.
وفي حين افتُتح الأسبوع بحدَثيْن غير مسبوقيْن تَرَكا المزيد من الندوب في الجسم القضائي، مع إسراف مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون في تَجاوُز صلاحيتها المكانية ودهْم مقر مصرف لبنان (الحمرا – بيروت) في سياق «مطاردتها» الحاكم رياض سلامة في تطوُّرٍ لم يعرفه لبنان حتى في زمن الحرب، والتوقيف المثير للجدل للنائب البطريركي العام على أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج عند معبر الناقورة الحدودي (الجنوب) ومصادرة جواز سفره وهاتفه ومساعدات مالية وطبية كان يحملها، فإن الأسبوع الطالع سيحلّ مُثْقَلاً بتداعيات سابقة عالمية جديدة تستحق فوريةَ الورود في كتاب «غينيس»، بإقفال البنك المركزي لمدة ثلاثة أيام متتالية (حتى اليوم).
وإذ كانت التفاعلات السياسية للتحقيق مع المطران الحاج لساعات في مركز الأمن العام بقرار من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي «تنفجر» بمختلف الاتجاهات مع البيان «الصاعق» الذي صدر عن المجمع الدائم لسينودس أساقفة الكنيسة المارونية ودان «الاعتداء المتعمّد» الذي «أعادنا إلى زمن الاحتلال» مطالباً بمحاسبة المسؤولين عما حصل وتنحية عقيقي (تربطه صلة قربى بالرئيس نبيه بري) وإعادة المساعدات التي كان يحملها، فإن المعالجات لِما يبدو «جنوحاً» قضائياً في ملفين بحجم توقيف الحاج ودهْم القاضية عون مصرف لبنان مع مرافقيها، بدتْ مشوبة بشكوك حيال المدى الذي يمكن أن تأخذه في ظلّ «الخطوط الحمر» السياسية المرسّمة «بالعريض» حول كل من مدعي عام جبل لبنان (المحسوبة على فريق الرئيس ميشال عون) ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، وسط خشية مزدوجة:
أولاً من أن الذهاب بعيداً في منحى مساءلتهما سيشكّل «صاعقاً» قد ينفجر بمجمل الوضع اللبناني القابع فوق «برميل بارود». وثانياً من أن إدارةَ الظهر لصرخة الكنيسة خصوصاً ستقاس بتداعياتها المعنوية كما السياسية ولا سيما في ظلّ التفافٍ واسع حول البطريركية المارونية التي اعتبرت ما يجري في سياق «رسالة ضغط» عليها في إشارة ضمنية إلى ربْط الأمر بمجمل مواقف الكنيسة في القضايا السيادية كما الاستحقاق الرئاسي المقبل.
وفي حين كان القاضي عقيقي يوضح (لموقع «النهار» الإلكتروني) أن ما خضع له الحاج، كان عملية تفتيش و«أنّ الأموال التي كان ينقلها، والتي بلغت نحو 460 ألف دولار ليست ملك الكنيسة إنّما مصدرها من عملاء مقيمين في إسرائيل يعمل غالبيتهم لصالح العدو في الأراضي المحتلة وتخضع للأحكام القانونية اللبنانية المتعلّقة بكلّ ما يدخل لبنان من الأراضي المحتلة وتطبق على كلّ قادم منها»، فإن اجتماعاً بارزاً عقده رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع وزير العدل هنري خوري ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات.
وإذ أوضح خوري «اننا استعرضنا التطورات التي حصلت في هذين اليومين في ما يتعلق ببعض الملفات القضائية الشائكة، وطلب دولة الرئيس معالجة الأمور وفق الأصول والقانون، وهذا كان الموضوع الأساسي»، قال رداً على سؤال حول موقفه من مطالبة البيان الصادر عن البطريركية المارونية بإقالة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية: «اطلعت على البيان وستكون لي زيارة لغبطة البطريرك الراعي بعد استجماع كامل المعطيات أمامي وسأقوم بعرضها والوقوف على رأيه في هذا الخصوص».
ورداً على سؤال آخر عما قامت به القاضية عون من خلال اقتحام مصرف لبنان وهل لها صلاحية القيام بذلك قال: «المداهمة في بيروت، أكيد أنه عمل غير متاح من ناحية الصلاحية للقاضية عون. أما في ما تنوي القيام به، والخطوات اللاحقة لها فلا علم لي بها».
وجاءتْ هذه التطورات على وقع المَفاعيل المُتَدَحْرِجَة لإضرابِ نقابة موظفي مصرف لبنان اعتراضاً على ما قامتْ به القاضية عون ضمن سياق ملاحقةٍ ملتبسة لسلامة شخصياً، بينما تغوص البلادُ في مستنقع أزمةٍ نقدية عاتية تتوالى فصولُها الدراماتيكية من دون هوادة على مدار ثلاثة أعوام متتالية.
ووصف مسؤولٌ مصرفي عبر«الراي» المشهدَ الماثل في البلد «المنكوب» بأنه «يفوق الخيال» فالاضراب «النقدي» الذي أفضى إلى توقف كامل العمليات المالية اليومية بين المصارف والبنك المركزي، وبما يشمل المقاصة وغالبية عمليات فتح الاعتمادات التجارية وغيرها، أوقف أيضاً أعمال منصة «صيرفة» التي تتكفل بضخ الدولار النقدي لمصلحة الأفراد والشركات، ويرجح أن يؤثر سلباً في تدفقات السيولة بالليرة لدى الجهاز المصرفي.
وتكمل الوقائع المستجدة، وفق المسؤول، وضعيةَ الشلل التام للقطاع العام في ظل الإضراب المفتوح الذي ينفذه موظفو الإدارات العامة منذ أكثر من شهر، ليعمّقا معاً مفهوم «الدولة الفاشلة» بإرادة سلطاتها وتَعَمُّدها الحفر نزولاً في القعرالمأسوي الذي انزلقت إليه. وبذلك يصح التقييم الذي وَضَعَ لبنان أخيراً في مقدّم ترتيب «الأسوأ» بنوعية الحياة («تسبقه» في أسفل اللائحة 6 دول)، حيث يتنامى التغييب شبه التام للعناصر الضرورية للحياة اليومية، بدءاً من تعطل غالبية الخدمات العامة في مجالات الكهرباء والمياه والتغطية الصحية والاستشفائية والتعليم وسواها الكثير، وليس انتهاءً برحلة العذاب اليومية بحثاً عن «الخبز»، في حين تتنافس القنوات التلفزيونية على نقل مشاهد شاحنات الطحين العابرة للحدود الى سورية.
ويشكل تمادي الحكومة بتأخير إعادة هيكلة بيانات مشروع قانون الموازنة العامة في قائمتيْ الإنفاق والايرادت، عقبة كأداء أمام أي جهود محتملة لتصويب الانحرافات المالية الحادة التي بلغتها الخزينة، ولا سيما في ظل تقلُّص الموارد الى أدنى مستوياتها بفعل إضراب موظفي القطاع العام وتَعَذُّر سداد غالبية الرسوم والضرائب، فيما تنحو الدولة إلى ضخ مصاريف إضافية على طريقة «لحس المبرد».
وتمثّل ثغرةُ تحديد السعر الجديد لصرف الليرة النواة الصلبة للاشكاليات الاستثنانية التي تؤخر إدخال التعديلات المطلوبة والملحة على قانون الموازنة. ووفق ما أشارت اليه «الراي» سابقا، فإن هذه المعضلة أكبر من أن يحمل مسؤوليتها وزير المال بمفرده.
وما من مخارج مقترحة أو ممكنة لعقد اجتماع لمجلس الوزراء لاتخاذ قرار جامع على مستوى السلطة التنفيذية، ليس بسبب ذريعة اقتصار مهمات الحكومة المستقيلة على تصريف الأعمال بالنطاق الضيق فحسب، بل تبعاً لتَجَدُّد الصِدام بين أركان السلطة في شأن تأليف الحكومة الجديدة وما تستبطنه من ملفات خلافية حادة، وبينها ما يعود إلى حاكمية البنك المركزي، ناهيك عن تحوّل الأزمة الحكومية أحد «متاريس» الانتخابات الرئاسية التي تبدأ المهلة الدستورية لإجرائها بعد 40 يوماً.
ويندرج ضمن دلائل إرجاء معالجة ثغر الموازنة وإقرارها تشريعياً، توقيعُ رئيس الجمهورية ميشال عون (الأربعاء) مرسوماً يقضي بإعطاء مساعدة اجتماعية موقتة لجميع العاملين في القطاع العام مهما كانت مسمياتهم الوظيفية والمتقاعدين الذين يستفيدون من معاش تقاعدي، وإعطاء وزارة المال سلفة خزينة من أجل تمكينها من سداد هذه المساعدة.
وفي التفاصيل، المساعدة الاجتماعية قيمتها 100 في المئة من الراتب وتُحتسب على أساس الراتب أو الأجر أو أساس المعاش التقاعدي على ألا تقل قيمة المساعدة عن مليوني ليرة شهرياً لمَن هم في الخدمة ومليون و700 ألف للمتقاعدين وألّا تزيد على 6 ملايين ليرة للذين في الخدمة و5 ملايين و100 ألف ليرة للمتقاعدين.
وفق هذه المعطيات وسواها الكثير، يؤكد المصرفي أن مقولة البنك الدولي بأن الكساد المتعمّد في لبنان هو من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية، تتكرّس يومياً بالمزيد من القرائن، وهي تثبت، بالأدلة الدامغة، إتقان السلطات لعبتيْ تضييع الفرص والوقت وترحيل الملفات الملحة الى أمد غير معلوم، من دون الاكتراث لخطورة النزف المستمر في احتياطات العملات الصعبة لدى مصرف لبنان التي بلغت أخيراً الخط الأحمر مع هبوطها دون مستوى 10 مليارات دولار.
وفي المشهدية عينها، يشير المصرفي الى حقيقة تبديد نحو 20 مليار دولار من المخزون الاحتياطي ضمن الوقت الضائع لصوغ خطة إنقاذٍ تتوخى الاستحصالَ على قرض تمويلي بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات من صندوق النقد الدولي.
علماً أن الحقيقة المُرّة التي يدركها أهل الداخل والخارج معاً، هي استحالة انخراط السلطات «المنتفعة» من الانهيار بشروط الاصلاحات الهيكلية الشاملة التي يطلبها الصندوق والمجتمع الدولي المستعد للمساندة في جهود الانقاذ والتعافي.
ويخشى المسؤول المصرفي، احتدامَ جولاتِ النزاع في المرحلة المقبلة بين مشروع النموذج المالي والنقدي القائم تاريخياً في لبنان وإمكان معاودة إنعاشه بعد الانتكاسات الكبيرة والمتوالية بفعل الأزمات المتلاحقة وانهيارات العملة الوطنية، وبين استمرار الاندفاع لاعتماد خيارات بديلة تتسم بالغموض غير البنّاء، وذلك بالتزامن والترابط العضوي مع انخراط الأطراف الداخلية في مواكبة استحقاقات دستورية مفصلية بمواقيتها الداهمة وبنتائجها التي ستحدّد معالم خريطة الطريق للبلاد واقتصادها في المرحلة المقبلة.
وفي ظل رصْدٍ لأوّل جلسة تشريعية للبرلمان الجديد، دعا إليها الرئيس نبيه بري الثلاثاء المقبل وإذا كانت ستتيح إقرار «أول غيث» قوانين إصلاحية، استكمل الموفد الفرنسي بيار دوكان، المنسق الخاص للمساعدات الدولية للبنان لقاءاته في بيروت، حيث زار أمس الرئيس ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال، المكلّف في الوقت نفسه تشكيل الحكومة الجديدة، نجيب ميقاتي، وسط انقطاع خطوط التواصل بين الرئيسين ودوران مسار التأليف في حلقة مفرغة.
وأكد رئيس الجمهورية أمام دوكان «إصراره على مواصلة المسيرة الإصلاحية الضرورية من اجل الانطلاق بالتعافي المالي والاقتصادي في لبنان»، متطلعاً الى أن يعمد المجلس النيابي الجديد الى إقرار المشاريع الإصلاحية اللازمة ومن بينها: موازنة العام 2022، وتعديل قانون السرية المصرفية وقانون «الكابيتال كونترول»، وغيرها من مشاريع القوانين المحالة إليه لدراستها، التزاما بتحقيق هذه الغاية.
وشدد عون على «استكمال التفاوض مع صندوق النقد الدولي لأنه المدخل الأساسي لبداية التعافي واستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني»، متمنياً على فرنسا «أن تعمل على حض المسؤولين في الصندوق على الإسراع في إبرام الاتفاق اللازم مع لبنان بعد إجراء الإصلاحات الأولية»، شاكراً للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عنايته الدائمة بلبنان، على الرغم من جسامة المسؤوليات الملقاة على عاتقه بعد إعادة انتخابه، والتي ترجمت أخيراً من خلال الدعم الفرنسي – السعودي للشعب اللبناني من خلال سلسلة من برامج الانماء والمشاريع الإنسانية، إضافة الى تقديم فرنسا هبة للبنان هي كناية عن 50 حافلة للركاب لتشجيع النقل المشترك.
وإذ أشاد بجهود فرنسا ومساهمتها في المساعدة على إعادة توطيد العلاقات بين لبنان ودول الخليج، أعرب عن أمله في أن تتشكل قريباً حكومة تقوم بواجباتها على أكمل وجه، لا سيما لجهة مواصلة الإصلاحات المطلوبة، وأهمها: العمل على توحيد سعر الصرف، ومتابعة عملية التدقيق الجنائي التي انطلقت من المصرف المركزي، وتقاسم الخسائر بصورة عادلة، والعمل على تأمين الأمن الغذائي، الى جانب وضع خطة النهوض بقطاع الكهرباء موضع التنفيذ، وإعادة النظر بالتعرفة لا سيما بالنسبة الى الجهات الميسورة وليس من خلال إضافة الأعباء على الطبقات الفقيرة.
وكان دوكان نقل إلى عون تحيات ماكرون، وتأكيده على استمرار الاهتمام الفرنسي بلبنان ورغبته في المساعدة على خروجه من الأزمة التي يمر بها على مختلف المستويات، مشدداً على أهمية توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، قبل انتهاء ولاية عون، لافتاً إلى أن ذلك الإنجاز يحتاج الى إقرار مجلس النواب لقوانين إصلاحية أبرزها: مشروع قانون موازنة 2022، وتعديل قانون السرية المصرفية، وقانون «الكابيتال كونترول» الموجودة نصوصها في مجلس النواب، والاسراع في انجاز مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف.
وأكد «أن فرنسا ستعمل على تشجيع الدول المانحة والمؤسسات الدولية للمساهمة في دعم لبنان من أجل تحسين البنى التحتية».
(الراي الكويتية)