لا شك بأن عودة التحركات الاحتجاجية إلى الشارع في بيروت ومناطق أخرى، تُعد إنجازا معنويا للناس قياسا الى الوضع السائد في البلاد بعد أشهر من الاعتكاف منذ ما قبل الانتخابات النيابية، مثلما يطرح إخفاقها في الحشد أسئلة مؤسفة تتعلق بعمق الإحباط الذي حلّ معطوفاً على قياس حالة الارتهان الهائلة التي تشلّ شرائح شعبية عن التمرد على المنظومة السياسية والاقتصادية المتجذرة في البلاد.
والواقع أن حالة الارتهان تلك قد تجلت بوضوح في عملية التجديد الغريزية لهذه الطبقة السياسية عبر استحقاق الانتخابات التي أفرزت بدورها عددا من النواب المستقلين المحترمين ومعهم نوابا تغييريين.
يشبه الوضع الاحتجاجي اليوم مرحلة ما قبل انتفاضة 17 تشرين 2019. لعله يشبه مرحلة إرهاصاتها التي امتدت بين اندلاعها وقبلها بسنوات أربع مع انتفاضة النفايات التي شكلت شرائحها الشعبية نواة 17 تشرين.
لا يساور أحد الوهم بأن انتفاضة شعبية جديدة على الأبواب. وقد يكون أحد أسباب عدم تحقق ذلك هو الواقع المعيشي نفسه الذي يمنع “ترف الثورة” معنويا، إضافة إلى الإحباط الكبير واستحالة التغيير في ظل النظام اللبناني، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية التي تحول دون الحشد في ظل عدم قدرة الناس على التنقل بسبب الكلفة الباهظة لذلك، وغيرها من العوامل..
على أن مشهد تحركات الخميس في 21 تموز الحالي في ساحة رياض الصلح ذات الرمزية الكبيرة والدائمة في التحركات، سيشكل تاريخا متجددا لعودة النبض الى الشارع، وإن كان بلا زخم شعبي متروك للظروف.
وهذه النواة ستشكلها النقابات يسارية الطابع التي نشطت كثيرا قبل 17 تشرين التي باغتتها بدورها فاستلحقتها النقابات التي تستظل المرجعية ولو المعنوية لـ”الحزب الشيوعي”.
وقد شكل اليسار الذي لا يكلّ الزخم الشعبي للمعارضة الشعبية في العقود الماضية، ومعه بعض أحزاب الحكم والى جانبه مرجعية “الإتحاد العمالي العام” الذي جمع يوما خلال نهاية الحرب الاهلية عشرات الآلاف حتى قدروا بـ 300 ألفا على طريق المتحف – البربير بين المنطقتين الغربية والشرقية، خط التماس الشهير، جمعوا اللبنانيين على رغم أنف الطوائف والنيران والضخ الخارجي.. هذا اليسار اليوم الذي بات مهمشا وبعد تدمير مرجعية “الإتحاد العمالي العام”، إستمر على تحركاته ومعه مجموعات تشرين وأبرزها كان الخميس “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد” وعدد من الناشطين المستقلين، وهي مجموعات ونقابات لن تغيب عن المشهد خصوصا وأننا لم نبلغ قعر الأزمة حتى الآن، وهو ما يبشر به الجميع!
التغييريون للتكامل مع الناشطين
وقد سرى حديث الخميس بين المتظاهرين يعتبر أن النواب التغييريين يشكلون مواساة لهم متأملاً منهم الكثير. والحال أن من المبكر الحكم على هؤلاء النواب الجدد بعد أسابيع على حلولهم في وجه المتمرسين في السلطة الذين كانوا السبب الأساس لما حلّ في البلاد من ازمة اقتصادية واجتماعية كارثية هي الأكبر منذ نشأة الكيان اللبناني.
ويشير التغييريون إلى أن نضالهم في البرلمان يوازي نضال الشارع وهم يخوضون معارك غير واضحة وغير مُتابَعة من قبل هذا الشارع نتيجة تعتيم الاعلام على ذلك كما يقولون. وتتركز تلك المعارك حول مشاريع القوانين في اللجان النيابية التي يواكب بها التغييريون الشارع بما يعكس مصالح الناس وتوجيه الأسئلة إلى الوزراء حتى في ظل حكومة تصريف للأعمال وحتى ولو لم يكن من المقدور طرح الثقة بالوزير..
كان هذا لسان حال النائبة حليمة قعقور التي حضرت والنائبة بولا يعقوبيان للمشاركة في الاحتجاج، وبينما لقيا ترحيبا من قبل البعض، بدت الغالبية غير مبالية وحتى غير إيجابية تجاه الزائرتين وهو ما يشير إلى ما كان معروفاً بأن غالبية شرائح 17 تشرين لا ترى بأن من وصل من تغييريين الى المجلس النيابي يمثلونها بالضرورة سوى بالمعارك التي يخضونها في المجلس. ولعل الترحيب الذي حصل عليه المرشح للنيابة واصف الحركة والذي خسر بصعوبة في دائرة بعبدا عن أحد المقعدين الشيعيين، يشكل مثالاً في هذا التقييم من قبل المحتجين لعمل هؤلاء النواب التغييريين الذين أكدوا للمتظاهرين في بيروت والمناطق محدودية قدرتهم على التغيير متحدثين عن إمكانياتهم الضعيفة في وجه السلطة، لكن مؤكدين على الحرب معها متجاوزين اختلافاتهم التي يقرون بها، غير المطلوب نفيها أو التغاضي عنها، فهم من مشارب سياسية واجتماعية متنوعة وقد أتت غالبيتهم من خلفية الانقسامات التقليدية قبل تاريخ 17 تشرين.
في كل الأحوال شكل الغضب سمة التحركات ومعه شعارات الفترة الأولى الزاهية للانتفاضة برفض كل القوى الحاكمة والمطالبة بحكومة خارج “السياسيين”، وتريد المجموعات أن تكبر كرة الثلج لكنها تعي في المقابل بأن الوجع الذي يعاني منه الشعب اللبناني أكبر من مستوى هذه التحركات.
لذا يتركز العمل على تعميق الوعي السياسي، الى جانب الثورة على الجوع، للحد من نسبة الإحباط العالية جدا، وترسيخ القناعة بأن القدرة على التغيير غير مستحيلة وبأن السكون والتأقلم مستحيلين إزاء دوس كرامة اللبنانيين وجعلهم يشحذون طبابتهم وتعليمهم وحقوقهم. فالجوع يتفاقم والقضم مستمر بينما يلهي السياسيون الناس بزيادات تافهة وسط رفع شبه شامل للدعم وتحضير للبلاد لدولار جمركي سيفرض عبئا جديدا على طبقة متهالكة تضم غالبية اللبنانيين باتت متجهة باضطراد نحو الحضيض.
على ان مسؤولية هزالة التحركات لا يتحملها الناس وحدهم، بل أن كثير من الناشطين بات يتفرد بالدعوات الى الشارع قاذفاً إياها أولا عبر غروبات الواتساب، قبل ان يتم تبنيها على طريقة الحركة الطلابية في السبعينيات، من دون تنسيق جدي مع الآخرين ما يعيد الى الأذهان الخلافات الكثيرة بين المنتفضين التي أدت، الى جوانب عوامل كبرى، الى عدم تجسيد انتفاضة 17 تشرين تمثيلاً حقيقياً في المجلس النيابي.