لطالما شكّلت رواتب القطاع العام قبل الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية التي عصفت بالبلد، أزمة في حدّ ذاتها، بعدما باتت تشكّل نسبة قريبة من الـ40% من حجم الإنفاق في الموازنة، وهي نسبة غير مقبولة وتؤشّر في العادة إلى خلل بنيوي يقود حتماً مع الوقت إلى الانهيار. وفشلت كل المحاولات السابقة في لجم تضخّم هذا القطاع غير المنتج، والذي نما اصطناعياً استناداً إلى الزبائنية التي تحكّمت في التوظيف بشكل عام. وقدّمت المؤسسات الدولية التي كانت تتابع الوضع، تحذيرات واقتراحات لخفض حجم هذا القطاع، الذي كان يلتهم بالتماهي مع كلفة الفوائد على الدين العام، حوالى 80% من الموازنة. وكان ذلك بمثابة حالة مَرَضية تعاملت معها السلطات بمنطق الاهمال والانتظار، وأثمرت هذه السياسة انهياراً شاملاً ساهم في جزء منه الإصرار على ليرة ثابتة في وضعٍ غير ثابت، كان ينهار بصمت، وكان تثبيت العملة الوطنية يخفيه جزئياً إلى أن وقع المحظور.
اليوم، تكرّر السلطة الإسلوب نفسه في التعاطي مع أزمة إضراب القطاع العام: إهمال ولامبالاة وانتظار! وبدأت مفاعيل الأزمات المتفرعة عن الإفلاس تضرب كل مفاصل الدولة، وتدفعها إلى التحلّل إلى حدود غير مسبوقة، وسط ذهول الدول التي تتابع الوضع اللبناني وتحاول ان تساعد.
وبما أنّه أصبح من نافل القول، أن لا حلول للأزمات سوى من خلال حلّ شامل يستند إلى البدء في تنفيذ خطة إنقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبدعم من الدول المانحة التي لا تزال تبدي الاستعداد للوقوف إلى جانب لبنان، لا بدّ من إجراءات مؤقتة بانتظار المباشرة في خطة التعافي الموعودة. هذه الإجراءات ينبغي أن تنطلق من ثلاث مسلمات أساسية:
اولاً- إعتماد مبدأ المساواة والعدالة في أي تصحيح جزئي للأجور في القطاع العام.
ثانياً- الإستناد إلى مبدأ تمويل الزيادة من خلال الموازنة، وعبر مصادر ايرادات مستدامة وواضحة ومضمونة.
ثالثاً- الأخذ في الاعتبار المعايير المعتمدة لجهة نسبة الإنفاق على رواتب القطاع العام قياساً بالإنفاق العام في الموازنة، وقياساً ايضاً بحجم الاقتصاد (GDP).
هذا الإجراء المأمول، ينبغي أن يوقف مفاعيل القرار الغامض الذي قضى بإعطاء القضاة امتيازات مالية من دون أي دراسة للأرقام والنتائج. وبالمناسبة، هذا القرار لا يزال يتيم الأب والأم، ولم يتمّ تبنّيه من قِبل أي جهة مسؤولة في السلطة، بما يسمح بالقول انّه قرار مشبوه ويعطي فكرة عن مدى التشوهات القائمة حالياً. وبات مسموحاً ان يسأل اللبناني من يتحكّم في مصيره؟ إذ لم يعد معروفاً من يتخذ مثل هذه القرارات التي تحتاج في الوضع الطبيعي إلى إجماع سياسي يشمل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ولا يمكن التعويل على تعميم مفاعيل قرار الدفع للقضاة على كل القطاع العام، لأننا في هذه الحالة نتحدّث عن مبلغ يقترب من 100 الف مليار ليرة. وهو يعني انّ مطبعة الليرات ستعمل بكل طاقتها لأيام عدة لطبع «طرحيات» الليرات الجديدة لتوزيعها على الموظفين. والنتيجة معروفة طبعاً، إذ انّ سعر صرف الليرة سينهار إلى مستويات غير مسبوقة، وسننتقل من أزمة رواتب القطاع العام، إلى أزمة قدرات شرائية منهارة اكثر مما هي عليه اليوم، ستشمل القطاعين العام والخاص، وسندخل مرحلة جديدة من التضخّم المفرط (Hyperinflation) ستفرض إنتاج اوراق نقدية جديدة ذات قيمة أعلى (ورقة المليون مثلاً). وقد نختبر نموذج حمل أكياس من العملة لشراء الحاجات اليومية.
إلى ذلك، فإنّ رفع حجم الرواتب إلى حوالى 80 الف مليار ليرة، سيرفع نسبة الإنفاق على الرواتب من حوالى 20% من مجموع الإنفاق في الموازنة (استناداً إلى ارقام المشروع المقدّم من الحكومة)، إلى حوالى 150%! في المقابل، وفي أحسن الأحوال، يمكن زيادة الإيرادات في الموازنة بنسبة 10 إلى 15%، من دون المجازفة بالقضاء على القطاع الخاص، وضرب الاقتصاد اكثر مما هو مضروب.
الحل المنطقي لهذا الملف، تدبير مؤقت يُفترض ألّا يطول اكثر من بضعة أشهر، يسمح برفع مجموع الاجور في القطاع العام إلى حوالى 20 الف مليار ليرة، مقابل زيادة الايرادات بنسبة 10%، ويكون كافياً لتسيير المرافق العامة، وإعادة ضخ الحياة، ولو جزئياً، في المؤسسات العامة، بانتظار الاتفاق الموعود مع صندوق النقد، والذي يُفترض ان يؤدّي في مرحلة أولى إلى وقف مسار الانهيار، وفي مرحلة ثانية إلى بدء مسيرة الصعود مجدداً إلى الضوء.
أنطوان فرح – الجمهورية