بغض النظر عن الرغبات، لا يمكن تكرار نموذج بشير الجميّل الذي كان واحد من شروطه غزواً عسكرياً مدمراً من أجل رئاسة لمدة أيام معدودة. كذلك وبالنظر إلى النتائج الباهرة لعهده، لا يتمنى أحد تكرار نموذج ميشال عون. وبالطبع، من الصعب جداً قبول نموذج إميل لحود مجدداً بما يستدعيه من ذكريات سيئة للوصاية السورية البائسة وما نتج عن قرار التمديد له.
حتى النماذج الأقل صخباً، أو “التوافقية” إذا صح التعبير، كالياس الهراوي أو ميشال سليمان، فهي بالكاد نجت من مصير رينيه معوض المخيف.
أما “مثال” فؤاد الشهاب فهو بعيد المنال بُعد لبنان اليوم عن زمن الجنرال اللبناني الأول. ولذا، هو موضوع نوستالجيا أكثر من كونه مقترحاً عملياً وواقعياً. وإذ تواضعت الزميلة دنيز عطالله، وفق قراءتها الموضوعية، باحثة عن الياس سركيس جديد، إلا أن هذا أيضاً يبدو مستعصياً لا لعدم وجود شخصيات بمثل صفاته، بل لأن الرئاسة نفسها فقدت سلطتها وصلاحياتها التنفيذية. والأهم أن المنصب الماروني الأول، يجسد اليوم مدى الضعف الذي لا يعوّض للطائفة. ضعف استنزافي يفاقم من مظاهر البؤس الثقافي والسياسي الذي يعصف بلبنان. فأي الياس سركيس جديد سوف يكون مشروع الشاهد المتألِّم الصامت أو الشهيد المأسوف عليه.
والإقرار بهذه الحقيقة، أي التقهقر الثقافي والاقتصادي والسياسي (وحتى الديموغرافي) للطائفة التي صاغت “الفكرة اللبنانية”، يسهّل علينا فهم معضلة رئاسة الجمهورية، التي خسرت سطوتها رغم الأهمية الرمزية لها في هندسة السلطة.
العجز الواضح بتقديم رئاسة “إنقاذية” من صناعة مارونية، بترحيب وطني وبقبول عربي دولي، مرده هذه الحيرة المزمنة بين رئيس توافقي هو عملياً اعتراف بخسارة الموارنة لدفة القيادة، ورئيس قوي هو عملياً أقوى ماروني وحسب بين ساسة طوائف أخرى أقوى منه بكثير. التوافقي يساهم بانزياح السلطة إلى خارج مؤسسات الدولة، والقوي يساهم بتحطيم ما تبقى من سلطة ودولة.
إنه مأزق مسيحي يتعمق منذ تلك الليلة المشؤومة عام 1988، حين انكشفت هزيمة “المارونية السياسية” على يد أبنائها وبقدرٍ أكبر من استطاعة خصومها.. منذ تلك الليلة، ما عادت رئاسة الجمهورية تشبه تاريخها، وما عادت “صناعة” الرئيس تتم بالشروط والمواصفات السابقة.
كي لا نبقى في التحسر، ومنعاً للمكابرة التي أدت لتسارع الخراب في عهد أشد المكابرين والمعاندين، ربما حان وقت التفكر في كيفية إعادة الهيبة والمقدرة إلى رئاسة الجمهورية، ليس بالبحث عن “الشخص” إنما عن مصدر السلطة والنفوذ والتأثير، مصدر القوة التي تستمد الرئاسة منها الطاقة والحيوية والزخم وأيضاً “الشرعية الشعبية”.
بهذا المعنى، ربما باتت معضلة رئاسة الجمهورية، وأيضاً رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس النواب، في تخصيصها الطائفي. والفكرة الاستفزازية في المداورة الطائفية لربما تحتاج إلى بعض “التهذيب” أو التطوير، كي تصير مقبولة، إن اقترنت بنية واضحة في إعادة الوقار والسلطة الدستورية إلى المناصب الأولى.
بالتأكيد أجدها فكرة مفزعة بل ونابعة من يأس، بل قد تكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. لكن، ومثالاً على جملة القرارات المصيرية والوجودية التي تشبه ما أعلنه أمين عام حزب الله مساء أمس الأربعاء، هي تستدرجنا قسراً إلى التسليم بالأمر الواقع، ومُداراته وتدبيره. التشبث بأي قشة تجنبنا الغرق، وربما توصلنا إلى حل يخرجنا من ازدواجية الدولة والدويلة مثلاً..
بمعنى آخر، ولأن لبنان الماروني أفل، كما لبنان “الطائف” يأفل، وبعيداً عن النفاق المتبادل أو التكاذب الذي لم يعد مفيداً.. وطالما أن الجميع يقرّ أننا ندخل في زمن “لبنان الشيعي”، وتأقلماً مع الواقع، قد يكون مفيداً البحث عن صيغة وطنية تكبح التقهقر المسيحي، وتزيح الغبن السنّي، وتلطّف الجموح الشيعي، وتطمئن “الأقليات” (ومن ضمنها اللاطائفيون)، على نحو يجعل “المداورة” ليست استفزازاً أو خطراً على أي طائفة.
فكرة عويصة، لكنها أفضل من عدمية هذه المراوحة في حفرة الانهيار.
من يرفض الفكرة مسبقاً، ومن دون تمحيص، هو أقرب للذين ما زالوا يغنون بسذاجة “راجع.. راجع.. يتعمّر لبنان”، أي ذاك اللبنان الذي مات وشبع موتاً.