بعد انهيار الليرة اللبنانية، التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها مقابل الدولار في السوق السوداء، بدأ لبنان يتجه تدريجا نحو دولرة اقتصاده. فالدولرة لم تعد تقتصر على ثمن المازوت الذي عمدت الدولة الى تسعيره رسمياً بالدولار، وإنما تجاوزته الى جميع القطاعات، من المستشفيات الى التأمين والأدوية وقطع السيارات والأدوات المنزلية وأقساط المدارس الخاصة وإيجارات الشقق والمحال التجارية واشتراكات المولدات، وغيرها من النشاطات التجارية والاقتصادية.
حتى أن عملية الدولرة حفّزت تجارة الشيكات المصرفية وزادت المضاربة على العملة اللبنانية لأن الناس تضطر الى شراء الدولار من السوق السوداء لتسديد ثمن مشترياتها بالدولار، بما أدى الى زيادة الطلب وانخفاض العرض.
الحديث عن دولرة الاقتصاد الكلّي، يصوره البعض وكأنه الحل السحري الذي سينقذ البلاد من براثن الأزمة التي امتدت آثارها لتشمل المغترب، والمودع، والمواطن. فما هو هذا الحل السحري؟ وهل اتُّبع سابقا؟ وما هو البديل الانجع؟
مفهوم الدولرة يعني إعتماد دولة ما على الدولار الأميركي رسميا بدلا من عملتها المحلية، وقد طبقت بعض الدول هذا المفهوم بشكل كامل كزيمبابوي والسالفادور والاكوادور في حين اعتمدت دول اخرى كالارجنتين والبيرو دولرة جزئية.
تلجأ الدول عادة الى اعتماد هذا الخيار حين تعاني من مشاكل اقتصادية كالتضخم وخلافه، وترمي من خلال هذا الإجراء الى الافادة من مزايا استقرار عملة أجنبية معيّنة. إلاّ ان هذا الامر، وبالرغم من وقفه ظاهريا للتضخم، لا يعالج اسبابه الأساسية المتوغلة في الاقتصاد، وهذا الإجراء القصير النظر تعتريه عواقب وخيمة عدة، وفق ما يقول المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة لها المحامي الدكتور باسكال ضاهر، “منها ان الدولة في هذه الحالة تكون كمن يسعى الى اعتماد أسهل الحلول التي اثبتت التجارب عدم نجاحها، اي الدولرة الكاملة وليس الجزئية التي كانت معتمدة في لبنان منذ الثمانينات حتى تاريخ صدور التعميم الرقم 151 المعلّق تنفيذه بقرار من مجلس شورى الدولة”.
ووفق ضاهر “فقد أصاب هذا التعميم المودعين فقط بحيث الزمهم سحب ودائعهم الدولارية بالليرة اللبنانية، بما أدى الى حال من التضخم توازياً مع تعدد اسعار الصرف، والهدف من كل ذلك إطفاء عجز وتشطيب خسائر من خلال الافادة من حال التضخم الحاصل، فيما المستفيد هو الدولة المدينة بالدفع لان قيمة الدين الداخلي عليها تنخفض بالتضخم”.
وهذا الاجراء برأيه “غير اخلاقي وغير قانوني، تلجأ اليه الدول الشاذة ويُعرف بالتضخم للتخلص من الدين بالعملة المحلية، إذ يصبح التضخم حالة مقصودة لاسيما في حال اتباع ما يسمى النظرية السياسية التي تدعى Modern Monetary Theory (MMT) علما انها نظرية سياسية وجُبهت من مجمل الاقتصاديين”.
ونبه ضاهر الى ان “من أبرز مساوئ الدولرة الكاملة هي حرمان الدولة والمصرف المركزي من سلطة التأثير في السياسة النقدية في البلاد، خصوصا ان “المركزي” سيصبح في وضع غير المتحكم بعرض النقود لانها ليست من صنعه، وتاليا سيفقد دوره الاساسي ويصبح في حالة عجز عن اتخاذ اي قرارات تنسجم مع الاوضاع المستجدة في البلاد. اضافة الى ذلك، فإنه سيؤدي الى حال من انعدام قدرة الدولة على اتخاذ أي قرارات تنسجم او تتلاءم مع الأوضاع المحلية التي تطرأ، ومنها معالجة المشكلات الاجتماعية، عدا ان الدول التي تتبع نظام الدولرة تضع نفسها تحت رحمة التقلبات التي قد تحدث في تلك العملة الأجنبية، وتحت رحمة القرارات التي ستصدر عن البنك المركزي الأجنبي”.
في الحالة اللبنانية، ستصبح الدولة في موقع المتلقّي لما سيقرره الاحتياط الفيديرالي الاميركي الذي وبالطبع لن يأخذ في الاعتبار ما يحتاجه لبنان عند تحديده لسياسته النقدية. ومعلوم ايضا وبشكل ثابت ان العملة الوطنية تعبّر عن السيادة المالية للدولة، وتاليا يقول ضاهر أنه “حين تتعمد الدولة التخلي عن تلك السيادة تكون قد شرّعت حدودها المالية، اي هدمت ذاك الحصن الذي يميز كل بلد عن الآخر”.
لماذا لا يحذو لبنان حذو ايسلندا؟
قد يكون المثال الابرز على فشل حل الدولرة الكاملة هو ازمة زيمبابوي التي وبعدما اعتمدت سلطاتها الدولرة الكاملة عادت في العام 2019 الى عكس مسارها السابق الذي استمر منذ العام 2008. فما الحل؟ يقترح ضاهر بدلا من اتباع نهج ومسار ازمة زيمبابوي الإلتفات الى كيفية الحلول التي اتبعتها ايسلندا حين مرت بأزمة مماثلة واعادت الحقوق لاصحابها كافة بعملتها ونقلت الاقتصاد من مكان إلى آخر.
فقد اتبعت ايسلندا عددا من الخطوات السريعة، ففتحت في غضون اشهر قليلة تحقيقا قضائيا بما حدث لتحديد المسؤوليات والعقوبات، وعيّن مدعٍ عام خاص بصلاحيات استثنائية مهمته تقديم المسؤولين عن الانهيار المالي إلى العدالة وقد عاونه في مهمته 110 محققين متخصصين اضافة الى الاستعانة بمحققين من خارج ايسلندا.
توازيا، تدخّل البرلمان وأقر قانون رفع السرية المصرفية اضافة الى تشكيله لجنة تحقيق برلمانية خاصة وعلى جدول اعمالها وضع تسلسل زمني للأزمة وتحليل تفصيلي لعملية الانهيار المصرفي، اضافة الى تحديد مفصّل ومبوّب للخروقات التي حصلت بالقوانين والمسؤولين عنها، والنتيجة كانت بيان الاسباب والمسببات لا سيما عدم قيام المسؤولين باي عمل لوقف الانهيار وجرى تسميتهم وسَوقهم الى العدالة. وقد فاق عدد الذين تم توجيه الاتهام اليهم 100 شخص معظمهم من المديرين السابقين للقطاع المالي والمصرفي والاداري، وصدرت الاحكام بحق رؤساء ومسؤولين تنفيذيين قضى بعضها بمصادرة الممتلكات والسجن .
وايضا جرى تأميم البنوك الثلاثة الرئيسية تحت هيئة الاشراف المالية Financial Supervisory Authority وانشاء لجنتين واحدة للاشراف وتسيير الاعمال اليومية والثانية لمفاوضة كبار الدائنين والمودعين من اجل البحث في امكان الاتفاق على تأجيل الاستحقاقات وليس هضمها. ومن المفيد القول ان القانون اللبناني، لا سيما الرقم 2/67 يتضمن انشاء لجان ادارة بعد عزل الادارة السابقة لكل مصرف، وهذا يعني برأي ضاهر أن “قوانينا من ارقى القوانين الفاعلة بما يقتضي تطبيقه”.
في النتيجة نهضت ايسلندا من ازمتها اقوى مما كانت عليه وفي وقت قياسي، فردّت الودائع للمودعين وعززت الثقة باقتصادها، وكل ذلك حصل بسبب تفضيل السلطة الحاكمة اتباع القانون وانظمته بدلا من دفنه ووأده. أما بالنسبة الى لبنان فالحل سهل برأي ضاهر “انما يحتاج الى إرادة، والمفتاح يتمثل بتطبيق القوانين من جهة واعتماد الحلول الفاعلة والمجربة كأزمة ايسلندا، والانتقال من الريعية الى رحاب الإنتاجية بوجوهها كافة”.
المصدر: Lebeconomy