مرّ شهر على بدء موظفي الإدارة العامة إضرابهم المفتوح عن العمل، أثمر عن قرار مصرفي بتسديد رواتب القضاة على سعر صرف دولار 8 آلاف ليرة. زيادة «غير قانونية» تقضي على أيّ أمل بالحلّ، يقول نقابيون، مطالبين القضاة برفضها لما فيها من تمييز وترسيخ للطبقية.
للتعبير عن معاناته، يرسل أحد موظفي القطاع العام صورة براده الفارغ من الأطعمة، المفصول عن الكهرباء. يريد للصورة أن تكون مدوّية. ثمّ يستدرك ويطلب عدم نشرها فلا يريد لزملائه أن يعرفوا وضعه. «لا أريد شفقة من أحد» يقول.
إضراب موظفي القطاع العام مستمرّ منذ شهر. الوزارات العاملة على تماس مباشر مع المواطنين معظمها في إقفال تام. بالتالي لا إيرادات ولا واردات ولا معاملات في الدولة. في بلد آخر غير لبنان، كانت حالة الطوارئ ستعمّ البلاد، وكل الجهود ستنصب على تقديم الحلول. ربما كنا سنجد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) منكبان على إحداث خرق ما. ولكن كلّ ما يجري «صراخ في الصحراء».
لا مفاهيم واضحة في لبنان. سابقاً كانت الدولة سباقة في تعديل الرواتب والأجور، والقطاع الخاص يعارض ويرفض. أما اليوم فمعظم الشركات الخاصة عدّلت من أجور عمالها والدولة تمارس هوايتها المفضلة: «الفرجة». فقد موظف القطاع العام كلّ مقومات الحياة الكريمة. وفوق ذلك، هو مطالب بالوصول يومياً إلى مركز عمله مهما كان بعيداً والقيام بواجباته على أتمّ وجه. وفي حال التقصير، أقل ما يُقال له: «أنت تشارك في هدم الدولة، ولا بدّ من محاسبتك». صورة الموظف اللبناني قام معظم الإعلام بضربها عبر القول تارةً إنّهم «مسؤولون عن الانهيار المالي الذي نعيش بسبب سلسلة الرتب والرواتب»، وتارةً أخرى بوصف القطاع بـ«غير المنتج». النتيجة واحدة اليوم: الشعب اللبناني كلّه يدفع الثمن. حتى الموظفون تضرّروا من إضرابهم بعدما تأخر صرف رواتبهم لحوالى الأسبوع هذا الشهر، والدولة غير مهتمة. أنين الموظفين لا يصل إلى مسامع الوزراء. دولارات الجهات المانحة التي تصل على شكل مشاريع يتعاقد فيها المحظيّون من مديرين عامين وفرقهم تجعل الحياة «وردية». صوت الموظف الذي يتقاضى مليون ونصف المليون ليرة لا يعود ذا معنى.
التزام متفاوت بالإضراب
لم تتغيّر صورة الإضراب عن بدايته، إذ لا يزال الالتزام متفاوتاً بين الوزارات. في وزارة المالية، العصب الأساس للدولة، لا يأتي الموظفون إلى مكاتبهم ما يهدّد رواتب الشهر الجاري (تموز)، إما بتأخر صرفها أو عدمه، خصوصاً بعدما أكد رؤساء الوحدات في وزارة المالية في اجتماعهم أمس الأول على أنه «لا عودة إلى العمل أو الحضور الجزئي». مطالبهم الأساسية هي: راتب محتسب على أساس 8000 للدولار، وتغطية كلفة النقل بقسائم محروقات. لا بدلات مالية تتبخر مع كل ارتفاع بسعر صرف الدولار. بدلات النقل هذه لم تدفع منذ إقرار الـ64 ألف ليرة عن كلّ يوم عمل في شهر شباط المنصرم.
الوضع ذاته ينسحب على وزارة الداخلية في مديرية النفوس مثلاً. هناك حيث التماس المباشر مع المواطنين، وما يحتاجون إليه من أوراق ثبوتية تصدر عنها (إخراجات قيد، شهادات ولادة…). بينما مديريات الداخلية اللصيقة بالوزير فتعمل بالعدد الأدنى من الموظفين، يوم واحد أسبوعياً.
أما في وزارة التربية فالأوضاع مغايرة تماماً. الموظفون الإداريون في مبنى الوزارة يلتزمون العمل لثلاثة أيام أسبوعياً مناوبةً. ورغم ذلك فتخليص المعاملات بطيء جداً، و«الأفضل تدبير الواسطة قبل الذهاب»، بحسب طالب جامعي لا يزال ينتظر تصديق معاملته منذ شهر آذار. وبعد معرفة أصدقاء لأهله يعملون في الوزارة استلم المعاملة بكلّ سلاسة. هذا الأسبوع، في وزارة التربية، حاول عدد من الموظفين في مديريات مختلفة الاجتماع لمؤازرة زملائهم في إضرابهم. فكانت رسائل المطالبة بالنزول إلى مركز العمل جاهزة من مدرائهم بعد يوم واحد من الانقطاع عن العمل. رئيسة الهيئة الإدارية لموظفي القطاع العام نوال نصر تعيد عدم الالتزام في التربية إلى «طبيعة وظيفة هؤلاء، فهم أساتذة ملحقون بالإدارة لا موظفين إداريين»، كما أنّ إدارتهم تدفع لهم 90 دولاراً إضافية عبر الجهات المانحة و«تلزمهم بالحضور للحصول على المبلغ غير المنتظم».
موقف رابطة الموظفين
لم تعد أروقة الوزارات قادرة على إخفاء غضب الموظفين. يشعرون بالطبقية وبالتمييز سيّما بعد الزيادة غير المبرّرة بأيّ قانون على رواتب القضاة. ترى نصر«تضاؤلاً في الأمل بالوصول إلى حل». المفاوضات متوقفة مع الحكومة التي لا تقدّم إلّا ما هو مرفوض. وإقرار زيادة الرواتب للقضاة بشكل «غير قانوني» أتى على «الأفكار المطروحة للحل». هذه الزيادة تقضي بتحويل الراتب إلى دولار أولاً، بتقسيم قيمته على سعر الصرف الرسمي 1515، ومن ثمّ ضربه بـ8000 ليرة لكلّ دولار. بالتالي إذا كان راتب القاضي ستة ملايين ليرة يصبح الآن اثنان وثلاثون مليون ليرة، أي بزيادة نسبتها 450%. نصر لا ترى في هذه الزيادة إلا «خسارة للشعب اللبناني المراهن على استقلالية القضاء لمحاسبة المسؤولين عن أوضاعنا». وتطالب القضاة بـ«عدم الموافقة عليها» لأنّها «من دون سند قانوني وتقع تحت خانة الرشوة وفيها ترسيخ للطبقية بين الموظفين في القطاع العام». وتضيف «لا تحق الأسبقية لأحد بالحصول على الزيادة».
طباعة الليرات أو الدولار الجمركي
ماذا لو فكرنا بالزيادة لكلّ موظفي القطاع العام على هذا الأساس؟ «الكتلة النقدية كبيرة جداً ولا يمكن توفيرها للقطاع العام بأكمله» يجيب النقابي وليد الشعار. والزيادة التي أعطيت للقضاة ما كانت لتتم لولا موافقة وتغطية رئيس الحكومة وعدم ممانعته. وحتى الآن لا معلومات عن كيفية تغطية البدل عدا الطباعة المستمرة لليرات. أما المشكلة الأكبر يراها الشعار في «السّلك العسكري». فـ«معظم الموظفين الإداريين يستفيدون من شهاداتهم للقيام بأعمال أخرى تمكنهم من البقاء على قيد الحياة»، أما العسكري العادي وحتى من هم برتبة ضباط لا يسعهم القيام بأيّ أعمال إضافية.