خلافاً لأي نص آخر ولكل ما قيل ويُقال وسيُقال على مسرح التأليف الحكومي الذي بدأت تتوالى مشاهده فعلاً، فإنّ حقيقة الأمر هي في مكان آخر، يتجاوز هذا الاستحقاق إلى ما بعده، وصولاً إلى مصير الاستحقاق الرئاسي ومن سيخلف الرئيس ميشال عون في سدّة الرئاسة.
العالمون واللصيقون بالتأليف والمؤلفون والعازفون على أوتار التشكيلة الحكومية الموعودة، يقولون، بل يجزمون، انّ المشكلة ليست في ان تكون وزارة الطاقة من حصّة «التيار الوطني الحر» او لا تكون، وليست بتوزيعة الحقائب الوزارية على هذا الفريق السياسي او ذاك، ولا بمعايير التوزير والتوزيع ومواصفات الحكومة ووزرائها، أتكون حكومة تكنوقراط أم تكنوسياسية أم سياسية بحتة أم لا.
وليست المسألة تتصل بصلاحيات رئيس الجمهورية في التأليف إلى جانب صلاحيات الرئيس المكلّف هذا التأليف. فالدستور الذي يُفتأت على نصوصه واضح في هذا الجانب، ويعطي لكل ذي صلاحية صلاحياته، من دون ان تفتئت إحداها على الأخرى، ويعطي الدور الأساس في التأليف للرئيس المكلّف، الذي عليه ان يراعي في اختيار الوزراء وتوزيع الحقائب عليهم طائفياً وسياسياً، المعايير التي تكفل المشاركة والتوازن في التمثيل الوزاري، الذي قال «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه، بعدالته وشموليته تماماً كما يجب ان يكون عليه التمثيل النيابي، وذلك إلى حين قيام دولة الأحزاب التي يؤسس لها إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، يمهّد له إلغاء الطائفية السياسية الذي تحدّد المادة 95 من الدستور آلياته، وجعلت من «المجلس النيابي المنتخب على أساس المناصفة» بين المسيحيين والمسلمين، صاحب الصلاحية في المبادرة إلى اتخاذ الاجراءات الكفيلة بإلغائها وفق آليات وخطط مرحلية، لم تهمل هذه المادة الدستورية الإشارة اليها في وضوح.
قضية التأليف تتجاوز كل هذه القضايا إلى مسألتين:
الأولى، مصير الاستحقاق الرئاسي، سواء أُنجز في موعده الدستوري او لم يُنجز، وما سيكون عليه الحال إذا تألفت حكومة كاملة المواصفات الدستورية وتسلّمت صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال تعذّر او تأخّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية او لم يتأخّر ويتعذّر.
والمسألة الثانية، مصير بعض القوى السياسية في حال حصول فراغ رئاسي او انتخاب رئيس. فهناك قوى «تضرب الأخماس بالأسداس» هذه الايام، وتبحث في احتمالات ما يمكن ان يكون عليه مصيرها بعد خروج الرئيس ميشال عون من سدّة الرئاسة منتصف ليل 31 تشرين الاول المقبل. ويتصدّر هذه القوى «التيار الوطني الحر» برئاسة النائب جبران باسيل، الذي يتصدّى لمشهد التأليف الحكومي، موحياً انّه «المعبر الإلزامي» لولادة الحكومة الجديدة، ومن دونه لن تكون هناك حكومة.
ماذا يريد باسيل يا ترى؟
يقول الراسخون في علم التأليف الحكومي، انّ باسيل يريد في هذا الهزيع الاخير من ولاية رئيس الجمهورية ان يحقق كثيراً مما عجز عن تحقيقه من مصالح ومكتسبات في إدارات الدولة منذ بداية العهد الذي هو عهده. ومن الخطأ تقزيم ما يريده، وتالياً حصر أزمة التأليف في موضوع بقاء وزارة الطاقة ضمن حصته الوزارية. فهو عملياً وقبل أي شيء آخر، يريد من الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي أمرين أساسيين، يعرف مسبقاً انّ الاخير لا يمكنه إمرارهما له بأي شكل من الأشكال:
ـ الأمر الاول، إقرار تعيينات في كثير من المواقع الادارية في مختلف قطاعات الدولة، من شأنها ان تأتي بعشرات المديرين العامين المحسوبين عليه، ما يعزز وجوده ونفوذه في الدولة في ظل عهد رئيس الجمهورية المقبل، سواء كان مؤيّداً له أم معارضاً، علماً انّ باسيل، وعلى رغم كل ما جرى لم يتخلّ حتى اللحظة عن طموحه إلى خلافة عون في سدّة الرئاسة.
ـ الأمر الثاني، عزل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تمهيداً لتعيين حاكم جديد يكون موالياً له ولتياره السياسي.
ولكن الراسخين ايّاهم يؤكّدون، انّ ميقاتي ليس في وارد التسليم لباسيل بهذين الأمرين على الإطلاق، لكثير من الاعتبارات السياسية وغير السياسية التي لا يمكنه تجاوزها، خصوصاً انّها تخلّ بالتوازن التمثيلي في الادارات العامة، وكذلك في العملية الاصلاحية المطلوبة داخلياً ومن المجتمع الدولي الذي يرهن تقديم أي دعم للبنان بها.
ولذلك، وطالما انّ ميقاتي لن يلبّي لباسيل ما يريده، فإنّ الراسخين في علم التأليف الحكومي، يؤكّدون انّ مصير الاستحقاق الحكومي ماضٍ حتى الآن إلى مزيد من التعقيد إلى حدود عدم تأليف أي حكومة، وبالتالي استمرار حكومة تصريف الأعمال في مهمتها، لأنّها في علم الفقهاء في القانون والدستور تستطيع ان تمارس صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال حصول الفراغ الرئاسي بعدم انتخاب رئيس جديد خلال مهلة الشهرين الدستورية، التي تبدأ اول ايلول المقبل وتنتهي في 31 تشرين الاول.
ويقول هؤلاء، انّ المعنيين اذا الّفوا حكومة الآن فإنّها ستصبح مستقيلة دستورياً وتصرّف الاعمال وتحديداً عند انتهاء ولاية الرئيس الحالي، وتسلّم الرئيس المنتخب مهماته. اما في حال عدم انتخاب رئيس، فإنّ تلك الحكومة تبقى دستورية وتتولّى صلاحيات رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس جديد، الذي يتبعه دستورياً تأليف حكومة جديدة، وحكومة تصريف الاعمال الحالية في امكانها تولّي تلك الصلاحيات ايضاً. لذا، فإنّ تأليف حكومة جديدة من عدمه ليس بمشكلة.
ويستدلّ إلى ذلك، ما أفتى به العالم الدستوري والقانوني والتشريعي الكبير النائب السابق الدكتور حسن الرفاعي، أمام وفد من رابطة النواب السابقين التقاه قبل يومين، حول الخيارات التي يمكن اللجوء اليها في حال عدم تأليف حكومة وعدم انتخاب رئيس جمهورية في الوقت المحدّد، فقال إنّ «الحكومة القائمة، والتي أصبحت حكومة تصريف أعمال بعد الانتخابات النيابية الاخيرة، تقوم بحكم الدستور بممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية وفق المادة 62 من الدستور». وأضاف: «لا يجوز الادّعاء أنّه بعد انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء يصبح كل وزير من وزراء الحكومة يمتلك قيراطاً من صلاحية رئيس الجمهورية، وبتعبير آخر، لا يمكن القول إنّه في حالة غياب رئيس الجمهورية يُفترض أن تُتخذ القرارات بإجماع الوزراء. فرئيس الجمهورية لو كان موجوداً ويمارس صلاحياته كافة، فرأيه لا يمكن أن «يغلب» رأي مجلس الوزراء في حال أكّد مجلس الوزراء رأيه إما «بأكثرية أعضائه الحاضرين» أو «بأكثرية ثلثي أعضاء الوزارة (تراجع المادتان 5-65 و 56 من الدستور)».