في مواجهة فقدان الثقة بالاستقرار النقدي والسياسات الاقتصادية المحلية وخصوصاً بعد مسارات تضخمية حادة وسقوط نظام سعر صرف من دون طرح بدائل في بلد ما، تتجّه غالبية المواطنين والقطاعات والأسواق الى البحث عن الثقة عبر الدولرة، لما تمثّله العملة الأجنبية الدولية من عناصر أمان لحامليها.. وعلى رغم أن للدولرة أبعاداً تتخطّى الإطار الاقتصادي النقدي البحت، إلّا أنّ للشق النقدي التقني أهمية قصوى في تحضير الآليات التقنية لمواكبة خيار كهذا، يفرض نفسه من القطاع الخاص، بغض النظر عن بقية مساره الرسمي أو غير الرسمي.. فما هي أبرز خصائص مسار المضي في الدولرة الواقعية الزاحفة، التي تنقل الاقتصاد من الدولرة الجزئية الى الدولرة الشاملة؟ كيف وصلنا إلى هنا من الحاجة للثقة إلى آليات التطبيق؟
إقتصادياً، يتمّ تصنيف الدولرة على أساس التمييز المزدوج بين «الدولرة الكاملة» و»الدولرة الجزئية» من جهة، و»الدولرة الرسمية بفعل القانون» و»الدولرة غير القانونية الناتجة من خيار حرّ للقطاع الخاص» من جهة أخرى.
الدولرة الجزئية تتميّز بظاهرة «التعدّدية النقدية»، وهي تتعلّق بالاقتصادات، حيث يتمّ تداول العملات الأجنبية جنبًا إلى جنب مع العملة المحلية. وفي هذه الحال يبقى للبلاد مصرف مركزي يطبع العملة الوطنية، فيما السوق يستخدم العملتين في آن معاً، كما هي الحال في لبنان، منذ أن اختار القطاع الخاص اللبناني في الثمانينات اللجوء الى دولرة جزئية ولو بنسبة مرتفعة…
أما خيار اللجوء الى الدولرة، فيكون عادة نتيجة تضخم هائل وانهيار لسعر صرف العملة الوطنية، يُسقطان من العملة الوطنية وظائفها الثلاث الأساسية:
أولاً، كوحدة حساب تسمح بتقييم كل منتج وتسعيره. ثانياً، كوسيط تجاري يسمح بتسديد الفواتير الناتجة من كل عملية تجارية. وثالثاً، كحافظة لقيمة النقد وقدرته الشرائية، ما يسمح بتخزين العملة الوطنية لاستخدام لاحق، وهي الميزة الأكثر عرضة للخسارة بفعل التضخّم من جهة، وتدهور سعر الصرف من جهة أخرى…
وعند افتقاد استقرار القدرة الشرائية للعملة الوطنية يصبح تلقائياً من الصعب الاستمرار في التسعير بها في سوق حرّة، وخصوصاً إذا كان معتمداً في شكل أساسي على الاستيراد، لتأمين حاجاته الاستهلاكية.. وفي المرحلة الثالثة وبغية تفادي تقلّبات سعر الصرف والسجالات حول التسعير وفق معدلاته، يصبح السوق ميالاً تلقائياً إلى تفضيل الدفع بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً، وإجمالاً الدولار الأميركي… بذلك تفقد العملة الوطنية دورها الثلاثي الركائز…
فيما تشير الدولرة الكاملة إلى الاقتصادات التي تتخلّى عن عملتها الوطنية، وبالتالي، لا يعود من مبرّر لوجود مصرف مركزي فيها، يعني لا مرجعية مصرف مركزي للمصارف ولا مموّل أخير، لأنّ البلاد تصبح فاقدة الاستقلالية النقدية وتابعة نقدياً للبلاد التي تستخدم عملتها، فيسود فيها الدولار علامة حصرية للعملة.
وقد أظهر مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الكاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط.
وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على الرغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.
فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة.
ولكن يُلاحظ عادة، أنّ كثيراً من التحليلات لا يحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.
من هناك، نصل إلى مجالين متميزين:
- الأول يتعلق بالدولرة الفعلية والجزئية، حيث يتمّ استيعاب هذه الأخيرة في عملية استبدال العملة الوطنية بعملة أجنبية واستخدام الاثنتين معاً في السوق. وهنالك نماذج عدة للاستبدال بأدوات مختلفة. فيما يركّز الثاني على الدولرة الرسمية والكاملة، التي تفتح مجالات واسعة من البحث.
الدولرة غير الرسمية تتوافق مع الدول التي يمتلك سكانها جزءًا كبيرًا من أموالهم بالعملة الأجنبية. وإجمالاً يتبلور ذلك من خلال معدّل دولرة الودائع في شكل أساسي، ولو في اغتياب الامتيازات القانونية للعملة الوطنية. وغالباً ما تتصل هذه الدولرة بارتفاع التضخم. كذلك، فإنّ المشكلات السياسية والحروب الأهلية هي من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الدولرة (لبنان خلال الثمانينات). فإما استبدال الأموال عند استخدام الدولار كوحدة حساب ووسيط في التبادل، أو استبدال الأصول عندما يشكّل الدولار مخزن القيمة.
هناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة، من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية…) في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز:
المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني. فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد.
يؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى الأربعة أنظمة قياسية للدولرة.
ويُلاحظ وفق آخر تحديث لسيناريوهات تصنيف الدولرة (Ponsot 2019) أنّ الدولرة في لبنان أكثر تشابهًا مع الدولرة الجزئية والقانونية: التي تقابل المربع A2 في الجدول أعلاه. في نظام A2، تأخذ السلطات علماً بالممارسات الدولارية وتشرّع بعضها، مع الحفاظ على وحدة الحساب الوطنية والالتزام بدفع الضرائب في هذه الوحدة من الحساب، ولكن في السماح بإنشاء من مصرف لبنان، غرفة مقاصة للشيكات بالدولار الأميركي. كما ويستخدم التداول بالدولار الورقي في الصرافات الآلية وفي الأسواق..
من أبرز مفارقات سياسة النقد والقطع اللبنانية، أنّ الأسباب نفسها التي أدخلت الدولرة إلى لبنان تدفع بها اليوم خارجاً!! التضخم الهائل وتدهور سعر الصرف وفقدان العملة الوطنية وظائفها من حيث التسعير والتبادل والادخار الذي يحافظ على القدرة الشرائية، فضلاً عن الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي، التي أدّت في الثمانينات إلى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبّلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني… هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة، يحاول من خلالها النظام المصرفي فرض استخدام الليرة لا بل «لبننة» الدولار المودع لديها!
بعد أكثر من 22 عاماً على هذا «الستاتيكو»، وبعد أن تخطّت دولرة الودائع 80% وتمدّدت آليات الدولرة إلى كل النظام المصرفي لتشكّل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي، وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار تدخّل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المُتزايد عليه في السوق… وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من تراكم عجز في ميزان المدفوعات (ما عدا عامي 2016-2017 بنتيجة «الهندسات المالية» لتعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف، التي تزايد انكشافها بالدولار، إن كان ذلك تجاه الدولة عبر الاكتتاب بـ»اليوروبوند» أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار).
ولكن عملياً، هل الانتقال الى الدولرة الشاملة يحتاج كمية دولار ورقي بمقدار الودائع المسجّلة بالدولار؟ الجواب حتماً لا. إنما كمية الدولار الضرورية ينبغي أن تغطي، ويتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياطاً بالعملات الأجنبية الدولية (بالدولار الأميركي) يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بنحو أساسي «القاعدة النقدية» (base monetaire) (الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي)/ سعر الصرف الفعلي في السوق. ممّا يعني أولاً، اعتماد سعر صرف تتمّ على أساسه عملية التحويل. وثانياً التأكّد من توافر الاحتياطي المطلوب لاستبدال القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية أو امكانية استدانته، وإلّا ترك العملة الوطنية تنخفض، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوافر لديه من عملات أجنبية. وثالثاً تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي إلى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد في لحظة التحوّل الى الدولرة الشاملة…
اليوم، لا نظام ربط سعر الصرف قابلاً للاستمرار لافتقاد الاحتياطي الكافي للتدخّل المستمر في سوق القطع، ولا اعتماد نظام سعر صرف عائم ممكناً في ظل الدولرة الجزئية المرتفعة، لأنّه يعمّق الأزمة ويعمّم الفوضى، وفق كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية.. فلا يبقى سوى الربط المتشدّد المتمثّل إما بمجلس النقد (الذي لم يتمّ إقراره) أوالدولرة الشاملة الزاحفة كأمر واقع في انتظار كما يحصل تدريجياً…
الجمهورية