لا يوجد في لبنان مشهد مأساوي أكثر من تكدّس الموظفين شهرياً أمام الصرافات الآلية للمصارف للحصول على رواتبهم الزهيدة، مقسّطة على دفعات. صفوف طويلة، وذلّ لا يمكن وصفه، إذ باتت العملية تحتاج لساعات من اللف والدوران على مختلف الصرافات الآلية في منطقة السّكن والمناطق المجاورة للحصول على فتات لم يعد اليوم يساوي «فاتورة سوبرماركت».
الموظف اللبناني يصرف على وظيفته من راتبه حرفياً. الوصول إلى مركز العمل يستلزم بدل وقود لسيارته أو أجرة مواصلات أكبر من راتبه، من دون احتساب تكاليف أساسيات عيشه من فواتير كهرباء وطعام وشراب. هذه الحاجات الفيزيولوجية لم يعد بالإمكان تأمينها فتخلّى الموظف عن أصناف أساسية من الأطعمة. وقلّة منهم أبقت على اشتراك المولّد الكهربائي، بما أن الراتب لم يعد يعادل قيمة دولار واحد يومياً بالكاد يكفي لشراء «ربطة خبز» حجمها آخذ بالتناقص.
المسار التصاعدي
هذا الواقع ليس جديداً، ولم تلحظه الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة فجأة. تحرّكاتها الاعتراضية عليه بدأت بالظهور بعد طلب الحكومة اللبنانية من الموظفين العودة إلى الدوام الإداري الطبيعي بعدما خفتت حدّة جائحة فيروس كورونا المستجد في النصف الأول من العام 2021. رأت الهيئة في هذا القرار إنكاراً لكلّ ما يجري في لبنان، وكأنّ الأمور على ما يرام والتاريخ لا يزال متوقفاً ما قبل العام 2019 والموظف اللبناني خارج دائرة الأزمة الاقتصادية.
عندها بدأت رابطة الموظفين برفع الصوت والتحذير عبر الإضراب ليوم واحد أسبوعياً ابتداءً من شهر أيار 2021، فيومين أسبوعياً وصولاً إلى إعلان الإضراب العام في 1 تشرين الثاني 2021. هذا الإضراب العام سرعان ما أتى أكله بحسب رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر، فـ»حُدّد الموعد الأول مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي وعد بدفع نصف راتب شهرياً وتعديل بدل النقل من 24 ألف ليرة إلى 64 ألف ليرة». لكنّ الوعد ربط نصف الراتب بالحضور أقله لثلاثة أيام أسبوعياً إلى مركز العمل، الأمر الذي رفضته أغلبية الموظفين. «مطالبهم لم تكن يوماً الحصول على فتات لا تكفي أجرة طريق للوصول إلى مركز العمل» تضيف نصر. فأكّدت أنّ هذا «الأمر أعادنا إلى الإضراب أسبوعياً والحضور ليوم واحد لتسيير المعاملات فقط».
بالإضافة لما سبق، منحة نصف الراتب عن شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2021 لم تُصرف حتى أوائل شهر آذار من العام الجاري، أي بتأخير لأكثر من ثلاثة أشهر. وبدل النقل المحتسب على 64 ألف ليرة عن كل يوم عمل لم يُدفع حتى اليوم! هذه التراكمات دفعت بالموظفين لعدم تصديق أي وعود صادرة عن الحكومة والدعوة إلى الإضراب المفتوح بسقف أعلى بكثير من السّابق.
دولة العدالة الاجتماعية
إضراب اليوم لا يشبه التحركات السّابقة، المطلوب لم يعد الحصول على منح لا تكفي لملء خزان سيارة بالوقود بل «تصحيح الرواتب» بحسب عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة إبراهيم نحّال. يصف حال الموظف الذي «فقد 97% من القيمة الشرائية لراتبه، وأصبح دون خط الفقر. هذا ولم نحتسب بعد الزيادات المقبلة على أسعار الكهرباء والاتصالات وما سيلحقها. لم يعد أمام هذا الموظف سوى الموت، وحتى الموت صعب مع إقفال المستشفيات بوجهنا، وعليه لا يمكن الاستمرار أبداً. في السّابق جرّبنا كلّ الطرق ولم تؤدِ إلى النتيجة المرجوة، لا أحد يريد سماعنا وكأنّ المطلوب الوصول إلى الدمار الشامل لكلّ البنية التحتية اللبنانية من قضاء وتعليم وجامعة وإدارة عامة». يتابع نحّال: «هذا الموظف قدّم دمه أيام الحرب الأهلية ولم يقبل بإقفال الإدارة العامة، وذهب إلى مراكز الوزارات قاطعاً خطوط التماس لإيمانه بالدولة. واليوم هو لا يطلب أن يحصل على راتب يضعه فوق إخوته في الوطن بل يريد تصحيحاً للأجور كي يعيش فقط. نعم، نحن نريد التضحية للعودة إلى دولة الرعاية الاجتماعية». يتخوّف نحّال من دفع القطاع العام نحو الدمار «نحن نُدفع نحو الخصخصة والبيع للقطاع الخاص الذي يتحمل المسؤولية الأكبر عن وضعنا الحالي»، متسائلاً: «أليست المصارف من القطاع الخاص؟ وكذلك الأفران ومحطات البنزين التي تهدّدنا أسبوعياً بغلاء المحروقات وقطع الرغيف؟ المواجهة اليوم كبيرة ونتيجتها إما عودة دولة الرعاية الاجتماعية أو دولة الـ0.1%»، قاصداً أصحاب الثروات.
الإضراب في وجه من؟
لكن يبقى السؤال، ضد من يوجّه هذا الإضراب؟ ووجود حكومة تصريف أعمال الآن يزيد من صخب هذا السؤال. تجيب نصر «ضد كلّ مؤسسة دستورية يمكنها أن تفعل شيئاً وتجلس متفرّجة. مجلس النواب على رأس هذه المؤسسات لا سيّما أنّه يمكنه التشريع لإخراجنا من أزمتنا وكذلك رئاسة الجمهورية». وتؤكّد نصر أنّ «الإضراب اليوم قسري ومفتوح ولا تراجع عنه بحسب الموظفين الذين أخذوا الدفة من الرابطة بعدما وصلوا إلى حدّ الموت جوعاً».
رسائل بكلّ الاتجاهات
وفي استطلاع لآراء عدد من الموظفين المتحمّسين للإضراب، أمكن ترتيب الرسائل التي يوجهونها من خلال تحرّكهم إلى كلّ من النواب والوزراء الحاليين والسّابقين، وإلى المدراء العامين في الوزارات، وأخيراً إلى الشعب اللبناني.
للنواب والوزراء الحاليين والسّابقين يقول الموظفون: غداً سنقفل الوزارات ونسلّمكم مفاتيحها ونتفرّج على طريقة إدارتكم لها. فأنتم تتهموننا بالفساد عند كلّ مفترق وتقولون إنّ الموظف اللبناني يقبض من دون أن يعمل، بينما أنتم تعطلون كلّ الهيئات الرقابية من مجلس خدمة مدنية وتفتيش مركزي والمجلس الأعلى للتأديب. كما أنّكم وعند كلّ تعيين، تمنعون الموظف من الوصول إلى الفئات العليا وتوظفون بمراسيم من خارج الملاك مدراء عامين لا خبرة لهم بالشأن العام.
للمدراء العامين في الوزارات: لا تكونوا سيفاً علينا، نحن كلّنا في مركب واحد. لا تضغطوا على موظفيكم للحضور إلى مراكز عمل لا يوجد فيها حتى أوراق وقرطاسية أو كهرباء لتشغيل الأجهزة. إمّا أن نقف صفاً واحداً أو الدمار الكبير للقطاع العام.
للشعب اللبناني: حماية القطاع العام واجب علينا جميعاً. رفع الراية البيضاء ليس خياراً والخصخصة ممنوعة. الدولة هي مؤسسات وتعليم رسمي وجامعة رسمية ومستشفى حكومي فاعل. علينا الوقوف اليوم ضد الضرائب المجحفة بحقكم وحقنا وفتح النقاش بوضع الضرائب المباشرة على الأرباح أو استرداد أموال الهندسات المالية لتمويل الدولة. هذا التمويل لا يجب أن يكون دائماً بالوسائل التي لا تصيب غيرنا مثل الزيادة الأخيرة على بدلات السّجلات العدلية.
ماذا يريد موظفو الإدارة العامة؟
وضعت الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة أربعة مطالب:
أولاً:
أ- تصحيح الرواتب والمعاشات والتعويضات وفقاً لارتفاع مؤشر الغلاء، أو وفقاً لمنصة صيرفة،
وذلك بعد تصحيح الخلل الناتج عن القانون رقم 46/2017 (سلسلة الرتب والرواتب) بحق الأجراء والمتعاقدين، والفئات الخامسة والرابعة رتبة ثانية .
ب- رفع الغبن اللاحق بالمتقاعدين :
- إعادة احتساب المعاش التقاعدي على أساس 100%
- إلغاء ضريبة الدخل عن هذا المعاش عملاً بقرار المجلس الدستوري رقم 13/2017.
ثانياً:
الزيادة الفورية للتقديمات الصحية والاجتماعية في تعاونية موظفي الدولة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بما يتناسب مع ارتفاع كلفتها .
ثالثاً:
تأمين قسائم بنزين للموظفين بما يتناسب مع المسافات التي تفصلهم عن مراكز عملهم.
رابعاً:
إعادة الدوام الرسمي إلى الساعة الثانية من بعد ظهر أيام: الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء والخميس والساعة الحادية عشرة قبل الظهر من يوم الجمعة، لأن الدوام الحالي أصبح في ظلّ الظروف الراهنة، غير مبرّر ومستحيل التطبيق، لناحية تأثيره وعدم مراعاته للحياة العائلية والاقتصادية أيضاً.
المصدر : فؤاد بزي – الاخبار