طغت الأحداث التي فرضها بلوغ السفينة «اينرجين» حقل كاريش الغازيّ، على غيرها من التطورات، وفي مقدمها الشأن الحكومي الناجم عن تحوّل حكومة نجيب ميقاتي إلى حكومة تصريف أعمال، ولو أنّ الانهيار المالي والاقتصادي ينزع ترف التعامل بروية وأعصاب باردة مع هذا الاستحقاق، خصوصاً وأنّ احتياطي مصرف لبنان بات يعدّ أيامه الأخيرة ما يعني مزيداً من الخراب والخشية من فوضى أمنية قد لا تكون في الحسبان اذا ما انفجر البركان الاجتماعي وخرجت الأمور عن السيطرة.
إلا أنّ الموازين التي فرضتها صناديق الاقتراع لا سيما على مستوى التمثيل السنيّ، زادت من تعقيدات الملف الحكومي الذي هو بالأساس أشبه بكرة نار ستحرق كل من يتلقّفها بعدما بلغت الأوضاع الاجتماعية والنقدية مطارح خطيرة جداً… وهذا ما يقود إلى طرح أسئلة بديهية وأساسية: من سيغطي أي مرشح لرئاسة الحكومة؟ من سيبادر؟ بأي أصوات سيتمّ تكليفه؟
ففي المرحلة الأخيرة، لعب نادي رؤساء الحكومات السابقين دوراً متقدماً في هذا الشأن من خلال، تقديم مرشح لرئاسة الحكومة، وتغطيته، ووضع سقف الشروط السياسية… ورعايته. وبدا النادي أشبه بالقابلة القانونية لرئاسة الحكومة. ولكن مع انفراط عقده، واعتكاف رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري وكذلك رئيس الحكومة السابق تمام سلام، وتعرّض رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة لهزيمة في الانتخابات النيابية، وفقدان ميقاتي الوزن النيابي والتمثيلي، انتهت صلاحية «التجمّع» وصار أشبه بنادي تقاعد رؤساء الحكومات السابقين.
في المقابل، فرزت الانتخابات النيابية مشهداً متعدد الألوان والتوجهات للتمثيل السنيّ بعدما توزّع نواب الطائفة بين أكثر من مجموعة: نواب «17 تشرين»، «قدامى المستقبل»، وقوى الثامن من آذار. ما يعني أنّ أي «بوانتاج» قد يحصل اليوم للبحث في الترشيحات المحتملة لرئاسة الحكومة سيقود إلى خلاصة سوريالية!
الأرجح أنّ نواب «17 تشرين» سيكون لهم مرشحهم الخاص، من نسيجهم السياسي، انجساماً مع سلوكهم بالبقاء خارج تركيبة المنظومة. ومن المرجّح أيضاً أن تغرّد «القوات» خارج السرب لتطرح على سبيل المثال أشرف ريفي لرئاسة الحكومة من باب التمايز لا أكثر خصوصاً وأنّها باتت تدرك أنّ هناك صعوبة في تأمين أغلبية نيابية تتيح لأي مرشح من هذا المحور ترؤس آخر حكومات العهد. وقد يتفق «قدامى المستقبل» وقد لا يتفقون على مرشح واحد. فيما خيارات «التيار الوطني الحر» و»الثنائي الشيعي» قد لا تتلاقى بسهولة… ما سيؤدي حكماً إلى تعددية ترشيحات لرئاسة الحكومة، وفي حال حصول الاستشارات الملزمة، سيكون التكليف ضعيفاً جداً ربطاً بعدد الأصوات التي سينالها المكلّف.
ولعل هذا السيناريو هو الذي يدفع رئيس الجمهورية ميشال عون إلى تكريس القاعدة التي اعتمدها منذ بداية عهده، بمعنى لجوئه إلى الدستور الذي يحرره من المهل الملزمة، فلا يكون مضطراً للاستعجال لتحديد موعد للاستشارات النيابية قبل نضوج الاتصالات والمشاورات بين القوى السياسية، سواء على اسم المكلف أو تركيبة الحكومة وبرنامجها السياسي. وإلى الآن، الاتصالات لا تزال خجولة، مع أنّه يسعى إلى تأليف حكومة يسلّمها الرئاسة في حال لم يتم انتخاب خلف له، ولكي تنهي المفاوضات مع صندوق النقد الدولي قبل حصول الارتطام الكبير.
فعلاً، ثمة ضبابية استثنائية تحيط بملف التكليف، ولهذا لا يبدو أنّ الرئاسة في صدد تحديد موعد قريب للاستشارات الملزمة، والأرجح أنّه في حال تمّ تحديد موعد، فستُترك مهلة زمنية كافية لدفع القوى السياسية لتفعيل قنوات اتصالاتها للوصول إلى خلاصة مفيدة قد تؤدي إلى تكليف «توافقيّ» مقرون بتفاهم حول شكل الحكومة وتركيبتها، أقله حول الخطوط العريضة.
وما يبدو إلى الآن، أنّ ثمة عاملين واضحين للعيان: الأول لا رغبة لدى قوى الثامن من آذار في تأليف حكومة تُضرب بحجارة اللون الواحد خصوصاً وأنّ الظروف المالية والدولية لا تسمح بمغامرة من هذا النوع لكون أهم مهام الحكومة هو الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. والثاني هو أنّ ميقاتي لا يزال متقدّماً على غيره من الترشيحات. ولهذا يتصرّف بكثير من الغنج والدلال ولا يبدي أي تساهل لترؤس آخر حكومات العهد نظراً لتحدياتها الصعبة. لكنه يعرف أيضاً كما يقول في مجالسه أنّ أي مرشح آخر لن يجرؤ على تلقف كرة النار هذه. ولهذا يضع رجلاً فوق رجل وينتظر، خصوصاً بعد السجال الذي وقع بينه وبين «التيار الوطنيّ الحرّ» تحت عنوان معالجة ملف قطاع الكهرباء ورفع المتاريس الخلافية، الموجودة بالأساس، علماً بأنّ «تكتل لبنان القوي» لم يمنح ميقاتي ثقته للتكليف وإنما اكتفى بمنح حكومته الثقة. وهذا ما قد يربك مشهد التكليف أكثر حتى على جبهة ميقاتي اذا ما تبعثرت أصوات السنّة والكتل النيابية. ولو تمكّن من نيل العدد الأكبر من الأصوات، فسيظّل السكور ضعيفاً… فيما كلّ التكهنات تشير إلى احتمال أن يكون ميقاتي بعد أسابيع قليلة، مكلفاً لكنه لن يتمكن من التأليف.
المصدر : كلير شكر – نداء الوطن