صدرت قبل أيّام الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة، كما في نهاية شهر نيسان الماضي، لتعكس مجموعة من التحوّلات التي تركت أثرها على تركيبة موجودات والتزامات المصارف اللبنانيّة في ظل أزمتها القائمة اليوم. وهذا ما يترك أثرًا بالغ الأهميّة على أدوات الحل المتاحة في خطّة التعافي المالي. وخلاصة الأمر، باتت ميزانيّات المصارف عبارة عن كتلة ضخمة من الالتزامات المستحقة لمصلحة المودعين، في مقابل موجودات تتزايد فيها نسبة التوظيفات لدى مصرف لبنان وحده. أما النتيجة، فهي أن المصارف تعتاش من الأموال العامّة التي يقوم بخلقها مصرف لبنان بالليرة ضمن سقوف محددة، من دون أن تمارس أبسط الوظائف التي تقوم بها تقليديًّا المصارف في أي بلد.
الموجودات في مصرف لبنان
منذ بداية الانهيار، تواظب المصارف على تصفية مختلف أشكال موجوداتها: تسليفات القطاع الخاص، بعدما باتت تمتنع المصارف عن منح القروض الجديدة، مكتفية بتحصيل القروض الممنوحة سابقًا. سندات الدين العام بالليرة اللبنانيّة، التي تكتفي المصارف حاليًّا بتحصيلها من الدولة. وسندات الدين العام المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، أي اليوروبوند، التي تواظب المصارف منذ سنتين على بيعها في الأسواق الدوليّة. وحتّى صافي موجودات المصارف الخارجيّة، مازالت قيد التصفية تدريجيًّا.
في النتيجة، بات بند الموجودات الأساسي داخل الميزانيّات المصرفيّة هو توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان. وهي ارتفعت لتوازي قيمته 113 مليار دولار، من أصل موجودات تقارب قيمتها 172 مليار دولار. بمعنى آخر، باتت توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان تساوي نحو ثلثي موجوداتها الإجماليّة، ما يعكس طبيعة الترابط بين ميزانيّات القطاع المصرفي وميزانيّات مصرف لبنان، الذي يعاني بدوره من فجوة خسائر قدّرتها خطة التعافي المالي بحوالي 60 مليار دولار. مع الإشارة إلى أن ارتفاع قيمة هذا البند يرتبط بالفوائد التي تتراكم على توظيفات المصارف في مصرف لبنان.
وبما أن مصرف لبنان غير قادر على سداد هذه الإلتزامات للمصارف التجاريّة، فالطريقة الوحيدة التي تسمح للمصارف باستعمال توظيفاتها لدى مصرف لبنان تتمثّل في خلق النقد بالليرة اللبنانيّة (باستثناء مبالغ قليلة يؤمّنها مصرف لبنان لتمويل جزء من عمليّة سداد الودائع الصغيرة بموجب التعميم 151).
وبذلك بات مصطلح “المصارف الزومبي” ينطبق اليوم أكثر من أي وقت مضى على المصارف اللبنانيّة. وهذا مصطلح مالي يُعتمد للإشارة إلى المؤسسات الماليّة أو المصرفيّة المتعثّرة، التي تمتلئ ميزانيّاتها بالخسائر، ولا تستمر بالعمل إلا بفضل الاستفادة من المال العام، أو من الدعم الرسمي الضمني. بمعنى آخر، يشبه حال هذه المصارف وضعيّة الزومبي – نصف الميّت- في أفلام الرعب، لكونها فقدت مقوّمات الحياة الطبيعيّة، لكنّها لم تمت تمامًا بعد، فيما هي تقتات على المال العام، مثل الزومبي التي تعتاش على دماء ضحاياها.
تصفية سندات اليوروبوند
جميع بنود التوظيفات تسير على درب التصفية. توظيفات المصارف في سندات اليوروبوند، أي سندات الدين العام بالعملات الأجنبيّة، لم تعد تتجاوز 4.52 مليار دولار، بتراجع نسبته 46.18 في المئة، قياسًا بالفترة المماثلة من العام الماضي. وهذا العامل جاء مدفوعًا بعمليّات بيع هذه السندات في الأسواق الخارجيّة. وهو ما جعل نسبة سندات اليوروبوند التي تملكها المصارف اليوم لا تتخطى 14 في المئة من إجمالي سندات اليوروبوند المتداولة في السوق. وهذا التطور بالتحديد، يجعل مهمّة إعادة هيكلة الدين في غاية الصعوبة بالنسبة للدولة اللبنانيّة، نظرًا إلى اضطرارها للتفاوض مع دائنين أجانب متخصصين بابتزاز الدائنين المتعثّرين.
فهويّة جميع حاملي السندات مازالت مجهولة حتّى اللحظة، لكن بيع الجزء الأكبر منها، بعد الامتناع عن الدفع، يرجّح أن تكون قد ذهبت إلى الصناديق المتخصصة بالمضاربة على سندات المدينين المتعثّرين. وذلك بشراء السندات بأسعار زهيدة، ومن ثم التفاوض لتحصيل أعلى نسبة من قيمتها من الطرف المدين (أي الدولة اللبنانيّة في حالتنا).
تصفية سائر الموجودات
الموجودات المصرفيّة الأخرى ذهبت في مسار التصفية كذلك. القروض الممنوحة للقطاع الخاص خسرت في سنة واحدة نحو 23 في المئة من قيمتها، لتقتصر اليوم على ما يقارب 22.37 مليار دولار، مع توقّف الغالبيّة الساحقة من برامج الاقراض المصرفي، وتركيز المصارف على تحصيل قيمة القروض الممنوحة. سندات الدين العام المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، والمملوكة من المصارف، تراجعت أيضًا قيمتها بنحو 22 في المئة، مع توقّف المصارف عن الاكتتاب بسندات دين جديدة، واستمرار الدولة بالاقتراض من مصرف لبنان لتسديد السندات التي تحملها المصارف.
أمّا المؤشّر الأكثر دلالة على تراجع حجم السيولة التي تتحكم بها المصارف، فكان تراجع حجم الأموال الموجودة في حسابات المصارف لدى المصارف المراسلة، والذي انخفض بنحو 17.67 في المئة خلال عام واحد فقط، لتقتصر قيمته على 4.43 مليار دولار فقط. مع العلم أن هذا المبلغ بالتحديد كان من المفترض أن يرتفع خلال السنة الماضية، بدل أن ينقص كما جرى، بالنظر إلى وجود تعاميم لمصرف لبنان تفرض تكوين سيولة جاهزة لحسابات المصارف لدى المصارف المراسلة. وهذا ما أمنته بعض المصارف من خلال بيع فروعها الخارجيّة. باختصار، يعكس انخفاض قيمة هذا البند بالتحديد فشل تعاميم “إعادة الرسملة” التي حاول تسويقها مصرف لبنان كحل خلال العام الماضي.
في النتيجة، كل ما سبق يشير إلى استمرار التحوّلات السلبيّة المتسارعة في الميزانيّات المصرفيّة، والتي تزيد تدريجيًّا من حجم الأزمة التي يعاني منها القطاع، بل وتزيد أيضًا من حجم الخسائر التي تلحق بالمودعين فيه. أمّا المعالجة الجذريّة لهذه الأزمة، فمستحيلة قبل الشروع بتحديد الخسائر بشكل واضح داخل هذه الميزانيّات، وفي طليعتها الخسائر الناتجة عن توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي، ومن ثم تحديد آليّة توزيع هذه الخسائر على الأطراف المختلفة.
المصدر: المدن