مع إعلان رئيس مجلس النواب نبيه برّي موعد وصول آموس هوكشتاين الأحد أو الإثنين إلى بيروت يكون قد مضى أسبوع كامل على بدء شركة “إنرجين باور” الإعداد لاستخراج وإنتاج الغاز من كاريش.
يجزم مصدر وثيق الصلة بملفّ الترسيم لـ”أساس” أنّ مجيء رئيس الوفد الأميركي للمفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود لن يكون أكثر من “إبرة بنج” تُبقي الموقف اللبناني عاجزاً عن المواجهة. فهناك فارق كبير بين أن يصل هوكتشاين ويكون المرسوم 6433 قد تمّ تعديله فنضع الوسيط الأميركي تحت الأمر الواقع، وبين أن يأتي مهدّداً بعدم تعديله.
الأخطر، وفق المصدر عينه، هو السبب الحقيقي لزيارة هوكشتاين التي كانت ستحصل أصلاً حتى من دون دعوة لبنانية. فالقضية لا تقف عند حدود كاريش فقط. الموضوع الأساس أنّه خلال أيام سيُطلق الإسرائيليون دورة التراخيص الرابعة، وسيعلنون البلوكات التي سيتمّ تلزيمها، ومن ضمنها قد يكون بنسبة كبيرة البلوك 72 الذي يشمل جزءاً من حقل قانا اللبناني. فإذا لم يعدّل لبنان المرسوم 6433 بأسرع وقت ممكن، ويرسله إلى الأمم المتحدة لتعديل حدوده البحرية إلى الخطّ 29 بدلاً من الخطّ 23، فإنّ هذا الواقع سيسمح للإسرائيلي بتلزيم البلوك 72 وممارسة إلهاء مفضوح وإضاعة الوقت بحيث يتحوّل التلزيم أمراً واقعاً آخر، إضافة إلى احتمال البدء باستخراج وإنتاج الغاز من حقل كاريش، فتنتقل المعركة من كاريش إلى قانا.
يشير المصدر إلى أنّ هناك “كمّاً هائلاً من الشعارات الرنّانة وتهديد العدو والتغنّي بالخط 29، لكن من دون أيّ خطوة عمليّة لتعديل المرسوم 6433”.
ثمّة مسار، وفق المصدر، يثبّت هذا الواقع: في 21 تموز 2020 كان المرسوم 6433 موضوعاً قبل المفاوضات على طاولة مجلس الوزراء، لكنّه سُحب، ثمّ مُنع إرسال رسالة إلى الأمم المتحدة في أيلول 2020 تعدّل إحداثيات نقاط الخط 23 بالخط 29. وفي المفاوضات أرادوا حشر الوفد المفاوض بالتفاوض على مساحة 860 كلم مربّعاً. وحين وقّع رئيس الحكومة السابق حسان دياب على المرسوم حضر وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية (في حينه) ديفيد هيل إلى بيروت على وجه السرعة وتصدّى لمسار التوقيع، ويتكرّر هذا الأمر الآن مع هوكشتاين.
الرعاية القطرية؟
قدّمت الدولة اللبنانية أداءً مرتبكاً ومثيراً للشبهات من خلال تردّدها في الردّ مباشرة وبشكل حاسم على اقتراح مكتوب من هوكشتاين وزّعته السفيرة الأميركية دوروثي شيا على الرؤساء الثلاثة.
اقتراح هوكشتاين هو عبارة عن خطّ متعرّج داخل مساحة الـ860 كلم مربّعاً يحصل لبنان بنتيجته على جزء من الخط 23، لكن ناقصاً ومشوّهاً بحيث يحصر الخلاف مع الإسرائيلي بين الخطّ 1 والخط 23، ولا يعطي لبنان كامل حقل قانا، ويقضم المزيد من حصّة لبنان في مياهه في البلوكين 8 و10. وتقدّم الوسيط الأميركي بعرض إدارة الحقول المشتركة من قبل شركة “توتال” وشركات أخرى برعاية قطرية.
يقول متابعون للملف إنّ “رئيس الجمهورية يرغب من خلال استدعاء هوكشتاين بتسجيل اعتراض لبنان الرسمي على الانتهاك الإسرائيلي، وتسليمه ردّاً واضحاً برفض الخط المقترح من هوكشتاين، والطلب أن يستمرّ الأخير في مفاوضاته غير المباشرة للوصول إلى تسوية مع إسرائيل تحفظ حقّ لبنان كاملاً في مياهه وثرواته”، لكن حتى الآن لا بوادر عمليّة لوجود ردّ لبناني موحّد يُقدَّم إلى الوسيط الأميركي في شأن ملف الترسيم ككلّ.
يضيف هؤلاء: “الكلّ يعلم أنّ هوكشتاين لا يهمّه قبول أو رفض خطّه المتعرّج، بل يهمّه إلهاء الجانب اللبناني بنقاش عقيم بعيداً عن حقل كاريش وعن البلوك 72 المحاذي للخط 23 الذي يقع بكامله داخل الخط 29، والذي تسعى إسرائيل إلى تلزيمه في أسرع وقت ممكن”.
الجيش خارج الملفّ
من النتائج التي خلّفها ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدوّ الإسرائيلي أنّ الجيش هو اليوم خارج الملفّ. ليس الأمر بالجديد، لكنّ النقطة الأساسية أنّ الأسباب التي دفعت الجيش إلى إخراج نفسه من “ملعب المفاوضات”، أوّلاً أنّه قام بواجبه التقني والقانوني كاملاً، وثانياً أنّه حذّر من الوصول إلى المأزق الذي وصل إليه أركان السلطة اليوم من دون أن تلقى تحذيراته أيّ صدى.
في 3 آذار الماضي أعلن قائد الجيش العماد جوزيف عون “إنجاز مهمّته التقنية والقانونية في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل”، قائلاً: “بذلك يكون دورنا انتهى عند هذا الحدّ”، ومؤكّداً أنّ “المؤسسة العسكرية مع أيّ قرار تتّخذه السلطة السياسية في موضوع الترسيم”.
أتى هذا الموقف بعد أقلّ من خمسة أشهر من إحالة رئيس الوفد اللبناني في مفاوضات الناقورة العميد بسام ياسين إلى التقاعد من دون تعيين ضابط أو شخص آخر مكانه، وبعد قرار ضمنيّ من الرئيس عون بحصر التفاوض برئاسة الجمهورية بالتنسيق مع الرئاستين الثانية والثالثة، وبعد إعلان رئيس الجمهورية في حديث إلى جريدة “الأخبار” في 12 شباط 2022 أنّ حدود لبنان البحرية هو الخط 23، وأنّ البعض طرح الخط 29 من دون حجج لبرهنته وأنّ الخط 29 هو خطّ تفاوض.
ختم الجيش بذلك مساراً من المفاوضات غير المباشرة قادها منذ تشرين الأول 2020 وشهدت خمس جولات بوساطة أميركية وبرعاية الأمم المتحدة.
الخط 29 الذي نسفه رئيس الجمهورية تحت أعين حزب الله ورئيس مجلس النواب نبيه بري، واضع اتفاق الإطار لمفاوضات الترسيم، جدّد النائب جبران باسيل نسفه في البيان الأخير الصادر عنه أمس الأوّل، عبر التأكيد أنّه “خط تفاوضي لا يمكن لرئيس الجمهورية اعتباره خطّاً رسمياً من دون قرار أو مرسوم من الحكومة”، التي لم يطلب منها باسيل يوماً الانعقاد لإقرار المرسوم.
معادلة باسيل
أبعد من ذلك فإنّ إعلان باسيل أنّه واضع معادلة “لا غاز من كاريش من دون غاز من قانا” يعني أنّه يسلّم بشكل مباشر بأنّ حقل كاريش هو حصّة إسرائيلية خالصة، فيما الخط 29 يُظهر أنّ للبنان حصّة فيه تتجاوز 50% في منطقته الاقتصادية الخالصة.
بنى الجيش، الذي قدّم خرائط بناءً على دراسة بريطانية توصية المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) في العام 2011 أيام حكومة ميقاتي ووفقاً للقوانين الدولية، كلّ استراتيجيته في التفاوض على الخط 29 الذي يمنح لبنان 1,430 كيلومتراً مربّعاً إضافية تجعل المساحة المتنازَع عليها مع إسرائيل 2,290 وليس 860 كلم مربّعاً. لكنّه قاد المواجهة وحده من دون الوصول إلى نتيجة. مع العلم أنّ توجيهات قائد الجيش قبل انطلاق المفاوضات في تشرين الأول 2020، بناءً على توجيهات رئيس الجمهورية، تركّزت على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برّاً والممتدّ بحراً تبعاً لتقنية خط الوسط من دون احتساب أيّ تأثير لجزيرة تيخيليت التابعة لفلسطين المحتلّة.
في مقابل موقف اليرزة كان الجيش يضغط بقوّة لتعديل المرسوم 6433 لأنّ عدم إبلاغ الأمم المتحدة رسمياً بتعديل لبنان لحدوده البحرية، عملاً بالمادة 75 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، سيخسّر لبنان جزءاً من مياهه وثرواته النفطية والغازية.
عمليّاً، هذا ما “يتفرّج” عليه طاقم السلطة اليوم الذي يفضّل خوض المعركة بالبيانات والرسائل والتهديد بـ”زند” حزب الله، واستدعاء الوسيط الأميركي الذي أدار ظهره منذ أشهر لجولات التفاوض غير المباشرة، وشهد على فشل لبنان في تأليف لجنة سياسية-عسكرية-تقنية تواكب مراحل ملف الترسيم.
المصدر : ملاك عقيل – اساس ميديا