مَن بدّد أموال المودعين؟ انه اللغز او التهمة التي تتقاذفها الجهات الثلاث المسؤولة عن تبخّر الودائع. فبعد أن وصلت الاطراف المعنيّة الى الحضيض، ووُضع ملف توزيع الخسائر البالغة 72 مليار دولار على نار حامية، بدأت الاتهامات تُوَجّه من كلّ ناحية وصوب، بين المصارف ضد مصرف لبنان وبين مصرف لبنان ضد المصارف وبين المصارف ضد الدولة وبين مصرف لبنان ضد الدولة وبين لجنة حماية حقوق المودعين ضد المصارف ومصرف لبنان.
يصرّ كلّ طرف من الأطراف المسؤولة، ولو بنسَب متفاوتة، على التنصّل من مسؤولياته، وينكر دوره في تبديد الودائع، وكلّ جهة تُلقي مسؤولية خسارة اموال المودعين على غيرها، لتخلص النتيجة الى انّ أحداً لم يبدد تلك الاموال وان أحدا لا يريد تحمّل مسؤولية تعويض 72 مليار دولار متبخّرة من أموال المودعين!
لم تحظَ خطة الحكومة للنهوض المالي بإعجاب المصارف والمودعين. فالمصارف تعتبر انّ الخطة تحمّلها الجزء الاكبر من الخسائر وانّ مصرف لبنان هو المسؤول عن تبديد اموالها التي أودعتها لديه بالدولار الاميركي، والذي يواظِب على سدادها حالياً بالليرة اللبنانية، حيث كشف عضو جمعية المصارف تنال الصباح مؤخراً انّ اموال الهندسات المالية التي أمّنَتها المصارف للبنك المركزي بالدولار نقداً، استردّت فوائدها بالليرة اللبنانية التي فقدت 95 في المئة من قيمتها. فجاء ردّ الحاكم سريعاً ليؤكد انه أعاد للمصارف سيولة بالدولار بلغت 24 مليار دولار بين 2017 و2022. كما أكد سلامة في مقابلة اعلامية انّ الدولة هي من استنزفت من احتياطه 62 مليار دولار بين 2010 و2022.
فمَن هو المسؤول؟ ولماذا انتظر الطرفان لغاية اليوم لتبادل تلك الاتهامات؟ وما هو البديل من خطة سعادة الشامي التي تلقى اعتراضات بالجملة من دون طرح خطة بديلة عنها تسدّ فجوة الـ72 مليار دولار في ميزانية مصرف لبنان ولا تحمّل أحداً خسارة؟
في هذا الاطار، أوضح المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي محمد الحاج ان مصرف لبنان الذي كان يملك في تشرين الاول 2019 احتياطاً بقيمة 34 مليار دولار، يتحمّل كامل اللوم ومسؤولية تبديد الاموال، بما انه لم يلجأ الى فرض الكابيتال كونترول في حينه، واعلان حال الطوارئ عندما اقفلت المصارف، علماً انّ قانون النقد والتسليف يمنحه صلاحية الحفاظ على الاستقرار النقدي.
وقال الحاج لـ”الجمهورية”: لو كان البنك المركزي يتمتّع بالاستقلالية التي يمنحه ايّاها القانون، لكان فرضَ حال طوارئ مع بداية الأزمة، بعيداً من التدخلات السياسية والمجاملات المصرفية، ولم يكن ليسمح بتحويل ودائع الى الخارج او هدر الاحتياطي على سياسات خاطئة. كما انه يتحمّل مسؤولية السماح للمصارف بتحويل جزء من الودائع من الليرة الى الدولار بعد تشرين 2019، مما فاقمَ حجم فجوته المالية، “وهو أمر لا يحصل في أي بلد في العالم”.
وشدد الحاج على ان المشكلة الرئيسة للبلاد اليوم تتمثّل بالفجوة المالية في ميزانية مصرف لبنان التي ولّدت أزمة مالية في القطاع المصرفي، ولم تعد مرتبطة بحجم الدين العام الذي تقلّص نتيجة انهيار سعر الصرف.
ورأى انّ خطة النهوض المالي التي وضعتها الحكومة هي “أفضل ما يمكن ان يكون في الظروف الحالية، ومع الوقت يمكن تحسينها”، مشيرا الى انه في كافة دول العالم عندما يتعثّر البنك المركزي تتدخّل الحكومات لإنقاذه، إلا انه في لبنان لا يمكن تطبيق هذا المبدأ بشكل فعّال لأنّ الدولة متعثرة.
وشدد الحاج على ان الحلّ الوحيد للبنان في المرحلة الحالية هو صندوق النقد الدولي، مؤكداً ان الهدف من برنامج صندوق النقد الدولي والاجراءات الاولية المطلوبة هو تأمين تَناسق السياسات الاقتصادية الكلية، مشيراً الى انّ الاجراءات الاولية مترابطة ببعضها ولا يمكن الاختيار منها او إقرارها “بالقطعة” لأنّ ذلك سيؤدي الى سياسات كلية غير مُتّسقة. كما لفت الى ضرورة ان يعمل مجلس النواب الجديد بشكل جدّي ومتواصل على درس قوانين الاجراءات الاولية المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، وإقرارها في اسرع وقت ممكن، قبل شهر آب موعد دخول المجلس التنفيذي لصندوق النقد في إجازته السنوية. مشدداً على أن لا خلاص للبنان في الوقت الحالي من دون برنامج صندوق النقد الدولي، ومؤكدا في الوقت نفسه انّ مجرّد توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد سيعطي الثقة بجدية الحكومة اللبنانية في بدء عملية الاصلاح الاقتصادي، مما سيؤدي الى استقرار وتحسّن سعر صرف الليرة، جازماً انّ مَسار التعافي مع صندوق النقد الدولي سيكون أسرع من المتوقع وان التدفقات المالية الى لبنان ستتزايد مع بدء تطبيق البرنامج.
وختم الحاج: انّ برنامج صندوق النقد الدولي هو الفرصة الاخيرة لإنقاذ البلاد وانتشال المواطنين من حال الفقر والبؤس، لذلك حان الوقت لأن تضع الاطراف السياسية خلافاتها جانباً وتتوصّل الى توافق سياسي حول عملية الانقاذ وتركز على معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تواجهها البلاد.
المصدر : الجمهورية – رنى سعراتي