كلما ارتفع الضغط الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي أكثر وأكثر، ولا سيما حيال موضوع استرجاع ما تبقّى من أموال المودعين، تزداد الأفكار والطروحات والمشاريع الوهمية والإعلامية لكسب الوقت، والتشويش على المواطنين، من دون أي نية حقيقية او خطة تنفيذية واقعية.
إنّ نقطة الإنطلاقة المهمة، قبل التحدث عن أي مشروع، هي الإعتراف الرسمي من الدولة اللبنانية بخسارتها الفادحة، والإعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن تبخّر وإفساد أموال المودعين عبر كل السنوات، والحدّ من الإنزلاق لبدء مشروع إعادة الإعمار الإقتصادي والمالي. فالبداية الأساسية هي القبول والإقرار الرسمي والشفاف بالأرقام الواضحة، وبدء العمل بمشاريع إعادة الهيكلة لمحاولة استرجاعها بمسؤولية تامة وواقعية.
للتذكير، حتى هذه اللحظة لم تعترف الدولة اللبنانية بخسائرها المخيفة ومسؤوليتها المباشرة بهدر أموال المودعين، وتُحاول أخذ دور الحَكَم الذي يوزع المسؤوليات والخسائر من دون اعترافها مباشرة بالقسم الأكبر لهذه الخسائر المخيفة.
فإذا أرادت الدولة حقيقة الإعتراف بخسارتها، وهدفها استرجاع أموال المودعين حقاً، فإنه ليس لها خيارات عدة. فموضوع الصندوق السيادي الإستثماري، يُمكن أن يكون خياراً، لكن مشكلتنا كانت دائماً ليس في المشاريع لكن في التطبيق والملاحقة والتدقيق.
فالخيار الأول لرد ما تبقى من أموال المودعين كان يُمكن أن يكون من خلال مداخيل الدولة أو المردود عن تشغيل مؤسساتها، لكن يا للأسف كل مؤسسات الدولة مهترئة، وتنهار يوماً بعد يوم، وليس لديها أي فائض، لكن تتكبّد خسائر فادحة، ولا يُمكن الإتكال على هذه النافذة المغلقة.
اما الخيار الثاني للدولة اللبنانية فهو أن تطبع عملتها الوطنية، وترد المستحقات للمواطنين بالليرة اللبنانية. لكن هذا الخيار هو جريمة إقتصادية، لأنها ستزيد التضخم، كما ستزيد انهيار قيمة العملة الوطنية، كما نهب الشعب والمودعين.
أما الخيار الثالث والذي كان معتمداً في الماضي، فهو إعادة هيكلة الديون وإستبدالها بإستحقاقات طويلة الأمد. هذا الطرح لا يُمكن تطبيقه أبداً بعد خسارة الثقة الداخلية والخارجية، وخصوصاً التعثر المالي المعلن، والذي بالحقيقة كان إفلاساً مبطّناً لا تعترف به الدولة حتى اليوم.
والخيار الأخير المتبقي، هو بيع بعض أصول الدولة، بهدف موحّد هو رد قسم من أموال المودعين. لكن حتى هذا القرار لا نثق بتنفيذه، لأن مَن أهدر وأفسد اموال الدولة، ومَن دمّر كل مؤسسات الدولة، سيُحاول شراءها بأموال بخسة، وطعن الشعب مرة أخرى. فالحديث عن وضع كل أصول الدولة في صندوق سيادي إستثماري، كان يُمكن أن يكون الحل الأنسب في هذا الإنزلاق المخيف ومواجهة الحقيقة المُرة بعدم وجود أي خيار آخر لإسترجاع ما تبقى من أموال المودعين، لكن السؤال الكبير المطروح هو: مَن سيُدير هذا الصندوق؟ وبأي حوكمة رشيدة وشفافة سيُبنى عليه؟
فالمضحك المبكي هو أنّ مَن أهدر وأفسد كل أموال الدولة، وأحرق مؤسساتها المنتجة، يتحدث الآن عن صندوق سيادي. وحتى لو كانت فكرة مقبولة، لكن يستحيل تنفيذها في هذا الجو الغامض من دون أي صفة ومحاسبة وملاحقة. فإذا كان الهدف المعلن استرجاع أموال المودعين، فإنّ الهدف الغامض يُمكن أن يكون إهدار ما تبقّى من أصول الدولة وإفساده. وإذا كان هذا الطرح جدياً وواقعياً، فلنبدأ بطلب من إدارتها ومن شركات دولية، بتدقيق خارجي وتنفيذ وملاحقة مبنية على جدول واضح وواقعي في الإدارة، وفي توزيع الأرباح للمودعين.
في المحصّلة، إن المشاريع والأفكار والطروحات لن تنقص في لبنان، لكن مشكلتنا كانت وستبقى في التنفيذ والملاحقة والتدقيق. فقبل الإختباء وراء شعارات وهمية ووعود كاذبة، فلتبدأ الدولة بقبول وتحديد خسارتها الدراماتيكية، ومن ثم سنبدأ الحديث عن الإستراتيجيات والخطط الواقعية.