في جلستها الأخيرة ما قبل تصريف الأعمال، أقرّت الحكومة خطة التعافي المالي ورفعت تعرفة الإتصالات. وفيما كان رفع التعرفة أمرا متوقّعا في قطاع الإتصالات أسوة بمجمل القطاعات العامة والخاصة، لكن ما لم يكن بالحسبان، هو حجم الزيادة واحتساب هذه الزيادة وفق منصة «صيرفة»، ممّا يهدّد أعمال ومصالح اللبنانيين أفرادا ومؤسسات حدّ توقفها نهائيا خصوصا تلك التي تعتمد بدرجة كبيرة على الإتصالات والإنترنت.
على أنّ وزير الإتصالات جوني القرم، برّر في أكثر من حديث إعلامي بأنّ “الاجراءات التي اتخذت بزيادة التعرفة على الإتصالات الخلوية كان هدفها حماية القطاع وعدم انهياره” معتبرا «عدم زيادة التعرفة قرار مرّ، ولا أعتقد أنّ الناس كانت ستسامحني لو انقطعت الإتصالات… إلخ» .
بالتوازي مع هذه البشرى، يشكّك خبراء بشؤون قطاع الإتصالات أنّ تشكّل زيادة التعرفة حلّا للنهوض بالقطاع بشقيّه «أوجيرو» و»شركتي الخليوي»، ويتوقعون تراجعا كبيرا في عدد المشتركين في ظلّ جنون الدولار، عدا تأثير مرادف على المستوى الإقتصادي والضرر الذي يمكن أن يربك أعمال الناس «الأون لاين» في كلّ القطاعات ( التجارة-التعليم-الإعلام … إلخ).
وبعيدا عن كيفيّة إحتساب التكلفة الجديدة للإتصالات والتي أصبحت بمتناول الجميع، كيف يقرأ التقنيون والإقتصاديون مفاعيل القرار وما سبيل الإنقاذ بمعزل عن هذا النوع من القرارات؟
بعلبكي: لم يعد لدينا لا نفط
اتصالات ولا نفط غاز
رئيس جمعيّة المعلوماتيين المحترفين في لبنان ومنسّق قطاع التعليم والإبتكار في شبكة التّحوّل والحوكمة الرّقمية الدكتور ربيع بعلبكي أشار لـ «الديار» إلى إنّ القطاع كان يعتبر نفط لبنان، وحينما أصبح لدينا نفط غاز لم يعد لدينا لا غاز ولا إتصالات، موضحا أنّنا أغلى شبكة إتصالات في العالم بحجّة أنّنا بلد صغير ولا بدّ أن تكون الكلفة مرتفعة للتشغيل، علما أنّ هناك عمرا إفتراضيا لماكينات التشغيل وأنّ ثمنها «بيتسكر … وخلص»، مشيرا إلى أنّ الأزمة بدأت منذ إقرار التأمينات على الخطوط الثابتة بالدولار الأميركي والتي لا يعرف أحد أين ذهبت هذه الأموال، مرورا باعتماد هذه الوزارة وكأنّها المسؤولة عن تحمّل باقي الوزارات الأخرى، عطفا على سوء الإدارة الكبير بتاريخ الوزارة عندما تمّت خصخصتها.
رفع التعرفة ظلم
وفق بعلبكي، سعر الإتصالات الجديد ظالم بكلّ المعايير من الناحية العلمية والعدالة الإجتماعية وجنون الدولار، فالخليوي سيعتمد منصة «صيرفة» بسقف غير واضح وبالتالي سيصبح السعر 15 ضعفا، فيما سيرتفع سعر الإتصالات الأرضية من «أوجيرو» أربعة أضعاف، مشدّدا على أنّ الموضوع يحتاج إلى دراسة كون الإتصالات هي مشروعا استثماريا خاصة مع إقرار الخطة الإستراتيجية للتحوّل الرقمي والتي يفترض بموجبها أن تقدّم الدولة الانترنت بالمجان وليس أن ترفع سعرها، كما يجب ترشيد الإستهلاك كأن يحدّد- على سبيل المثال- سعر خاص للطلاب أقلّ من 25 وكذلك للمتقاعدين أكثر من 55 عاما، وسعر أغلى للعمال من 25 -55 عاما وهكذا.
قطاع مربح
قطاع الإتصالات مربح حتى لو بقيت التعرفة القديمة على حالها، هذا ما يراه بعلبكي الذي أكّد أنّه يمكن للقطاع أن ينهض شرط الإدارة الصحيحة، فمشكلة الكهرباء تحلّ بتركيب «Solar System» للمحطّات كما في سوريا، ويمكن التوفير في المحطات التي أصبحت خارج الإستخدام، وأيضًا ترشيد إستهلاك الإنترنت بتقييم عدد الكابلات المستأجرة وتجهيز باقة وطنية للصرف تماما كالباقات الشخصية، فيما الصيانة ليست معقدة فـ «الهوائي» لا يتعرّض كثيرا للتلف في حال كانت قطعه أصلية، وهناك موضوع «Local Cash» و dpi و»zero rate» و Cashing وهي وسائل توفّر أكلافا كبيرة على الدولة والمستخدمين.
إلى ذلك، يشدّد بعلبكي على أنّ الإتصالات بحاجة إلى ترشيد وخطة استراتيجية واضحة وواردات، وأردف أنّنا كنّا نستبشر بوزارات يكون وزراؤها من أصحاب الإختصاص وتفاجأنا أنهم ليسوا كذلك، وليس هناك خبراء، كما لم يستعينوا بأحد علما أنّنا كشبكة التحوّل والحوكمة الرقمية -كعمل وطني- وضعنا أنفسنا مجانا بتصرف أي وزارة تريد وضع خطة أو تمكين أو تقديم خدمات، أو أيّ نوع من الإستشارات و التقديمات التي لها علاقة بالتحول والحوكمة الرقمية، ولا نزال جاهزين لتقديمها.
الكلام عن إقفال القطاع مزايدة!
يشرح بعلبكي هنا أنّ عصب كلّ دولة هو الإتصالات والمواصلات، وتوقف القطاع تماما كإغلاق كل طرقات البلد، لافتا إلى أنّ هذا الكلام هو نوع من المزايدات ودليل فشل، فأموال التأمينات التي وضعت بالدولار منذ أول التسعينات حين أصبح لدينا قطاع خلوي، كفيلة بأن تؤمّن إستمراريّة القطاع لعشر سنوات قادمة، وكذلك من خلال محاسبة الفاسدين الذين سرقوا القطاع ولا يزالون موجودين فيه، مؤكّدا أنّ استعادة الأمول المنهوبة من القطاع سيؤمّن عمله لـ 50 سنة قادمة من دون الحاجة للجباية من المواطنين.
إنترنت السوق السوداء
أما تداعيات القرار على القطاع نفسه فهي كبيرة برأي بعلبكي، إذ ستحل اليوم محطات السوق السوداء بشكل كثيف وهذه الشبكات موجودة على كلّ الأراضي اللبنانية من Helium و mining لاستخدام الراوترات والإنترنت الفائقة السرعة … إلخ، ولن تستطيع الدولة إيقافهم كما حدث في موضوع مولّدات الكهرباء، لافتا في المقابل إلى أنّه لم يعد هناك عمل بدون إنترنت التي أصبحت منذ أكثر من عشر سنوات حقا من حقوق الإنسان، لمواطنيها وبالتالي تأمينه واجب كتأمين الدواء والتعليم وغيره.
ما الذي يمكن أن يفعله المواطن حيال هذا القرار؟
بعلبكي يعترض بشدّة على التحركات التي تؤدّي إلى شلّ البلد بطرق همجية من خلال قطع الطرقات ووقف أشغال الناس، ويشدّد على على التوعية أولا، وعلى المطالبة السريعة للمسؤولين بإيضاح الأسباب الحقوقية وراء رفع التعرفة، وفي حال عدم التجاوب فهناك قانون 81/2018 والذي يسمح لأيّ جمعية أو مؤسسة أن تطالب بحق الوصول للمعلومات، وأن تفتح ملفات قديمة وتحاسب من خلال الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أو مجلس شورى الدولة قبل الأول من تموز، كي نعرف مسوّغات القرار، وما إذا كان خلفه أياد خفية سوداء وفاسدة، مستغربا أنّه في الوقت أقرت فيه خطة استراتيجية للتحول الرقمي لعشر سنوات والتي تسعى الى تسهيل الحياة على المواطن من خلال الإنترنت سيتّم رفع سعر كلفة الإتصالات والإنترنت!
ودعا إلى مقاطعة رمزية بأن يطفىء اللبنانيون هواتفهم لعدة ساعات يوميا (3-4 ساعات)، لافتا إلى أنّه دائما ما تتخذ القرارات من دون الأخذ برأي المواطن، مستبعدا «تسكير» هذا القطاع فاللبناني دائما عنده البدائل ولكن هذا سيكبّد الدولة خسائر أكثر بكثير من واردات القطاع من خلال رفع الأسعار.
التأثير الإقتصادي
يرتبط التأثير الإقتصادي على ما يقول بعلبكي بعدد المستخدمين وحجم الـ «داتا»، فالاقتصاد الرقمي المنتج يرتبط مباشرة بعدد ونوعية المستخدمين وسهولة وحق الوصول الى الانترنت والتعرفة، والقرار صعّبه ووضع أمامه معوقات، حيث منع العدالة الإجتماعية الرقمية وأسر السيادة الرقمية الوطنية ما سيؤثر سلبا في الاقتصاد ويؤدي إلى هجرة الكثير من الشركات والمؤسسات الخاصة بالبرمجة والمهن التي تعتمد على الملكية الفكرية وتعمل من بلدان أخرى، لافتا إلى أنّ هناك أشخاصا يعملون بالدولار من المنزل وعندما تصبح الأسعار بهذا الجنون والإنترنت بهذا الضعف ومهددا بالإنقطاع سيغادرون البلاد وهذا سيؤثر تأثير مباشرا في الاقتصاد وفي الشركات الناشئة والموجودة والتي تسعى الى فتح فروع لها خارج لبنان.
عكّوش: المفروض رفع القدرة الشرائية للمواطنين مقابل رفع تعرفة الإتصالات
على الضفة المقابلة، يعتبر الخبير الإقتصادي الدكتور عماد عكّوش في حديثه لـ»الديار» أنّ القرارات في البلد تتّخذ اليوم بالمفرق، وبالتالي لا تعطي نتيجة إقتصادية، بل يمكن أن تعطي نتائج سلبية، وقد اتخذ قرار رفع تعرفة الإتصالات من دون مراعاة الواقع المعيشي للمواطنين وخاصة بالنسبة لموظفي القطاع العام والذين يبلغ عددهم 350 ألف موظف ما بين مدني وعسكري ومصالح مستقلة، إذ لم تتغير رواتبهم ولا تزال على 1500 ليرة ، لافتا إلى أنّ زيادة أعباء الإتصالات والإنترنت -وهي من أهم الوسائل للتعليم والتواصل- ستؤدي إلى انخفاض كبير في قدرتهم الشرائية.
ولفت في المقابل إلى ناحية إيجابية لهذا القرار وهي أنّ القطاع لا يستطيع الإستمرار بهذه التسعيرة منعا لإقفاله، لكن المفروض أن تصدر القرارات بالتوازي مع بعضها، أي إذا رفعنا تعرفة الإتصالات يفترض أن نرفع بالمقابل القدرة الشرائية للمواطنين من خلال رفع الأجور، وليس رفع سعر الخبز والمحروقات والإتصالات والكهرباء ولا تزال الأجور على حالها، مشيرا إلى أنّ مشكلة المواطن كبيرة ويمكن أن تتفاقم ونشهد تسربا في قطاع الإتصالات بأنّ يوقف أشخاص كثر خطوطهم وكذلك الإنترنت لعدم قدرتهم على الدفع لا سيما موظفي القطاع العام.
بعد تعذّر المواصلات، ولجوء أغلبية اللبنانيين إلى العمل «عن بعد»، في كلّ الميادين، جاء قرار رفع تعرفة الإتصالات والإنترنت ليشكلّ تهدّيدا لآخر مقوّمات الحياة ، فهل يشهد تموز تشرينا ثانيا؟