لم ينتظر سعر صرف الدولار طيّ صفحة الانتخابات النيابية، ولو لأيام قليلة، حتّى عاود التحليق، وبدأ بالارتفاع قبل الانتخابات بأيام. وكأنّ ثمّة يداً خفيّة رأت أنّ الوقت مناسب للتدخّل من أجل لمّ كلّ الدولارات التي أنفقتها اللوائح والمرشّحون على الحملات الانتخابية وعلى الناخبين.
باعتراف الجميع كانت هذه الانتخابات من بين أكثر الدورات الانتخابية إنفاقاً للمال. وليس أيّ مال، وإنّما الدولار “الفريش”. فبدل أن ينعكس ذلك زيادة في العرض عند شبابيك الصرّافين، تحوّل العرض المنتظر وبسحر ساحر إلى طلب مخيف. استأنف سعر صرف الدولار بموجبه التحليق مئة ليرة تلو مئة، إلى أن وصل الأمر بنا قبل أيام، إلى قفز الدولار ألف ليرة كلّ يوم ضربة واحدة.
مع هذه الحقائق يتفتّق سؤال في الأذهان: من هي الجهة التي تملك هذا الكمّ الهائل من الليرات اللبنانية وقادرة على التدخّل بواسطتها من أجل حصد الدولارات طالما أنّ الجميع يئنّ من شحّ الليرات؟
الجواب المنطقي والبديهي والسريع على هذا السؤال هو: مصرف لبنان.
مصرف لبنان هو الجهة القادرة على ممارسة هذه اللعبة الخطيرة، تحت مسمّيات الحاجة إلى الاستمرار في تسيير أمور اللبنانيين. أمّا إذا سألنا سؤالاً آخر يخصّ دوافع المركزي لاختيار هذا النهج، فالجواب لا يقلّ بساطة عمّا سبق: المصرف المركزي ما عاد قادراً على المغامرة أكثر بحجم كتلة الاحتياطي الإلزامي التي تتآكل مليار دولار تلو مليار نتيجة مرور الوقت وانسداد الآفاق السياسية والإصلاحية الاقتصادية… وكأنّ “المركزي” يتعامل مع كلّ استحقاق على حدة: فيعمد إلى أن يلمّ دولارات كلّ استحقاق قبل الوصول إليه، واستعداداً للاستحقاق المقبل.
انتهينا اليوم من ملف الانتخابات النيابية، ويبدو أنّ المركزي يعدّ عدّته منتظراً استحقاق تشكيل الحكومة، وهكذا دواليك، وصولاً إلى الاستحقاق الأكبر: الانتخابات الرئاسية.
صيرفة “تحلّق” أيضاً
قفز الدولار من نحو 27 ألفاً إلى قرابة 35 ألف ليرة على بعض التطبيقات، فيما الأفق متلبّد بالسواد. لم يقتصر هذا الواقع على “السوق السوداء”، وإنّما تعدّاه إلى سعر منصة “صيرفة”، التي سجّلت هي الأخرى ارتفاعاً ملحوظاً بلغ 500 ليرة ضربة واحدة (من 22700 ليرة إلى 23200 ليرة) بين اليوم الذي سبق الانتخابات واليوم الذي تلاها مباشرة، ثمّ استمرّ في الصعود إلى 24,600 ليرة للدولار الواحد، أي بارتفاع نحو 2,000 ليرة في غضون 10 أيام تقريباً.
أمّا حجم التداول على منصّة “صيرفة” فلم يعكس هذا الارتفاع هو الآخر، إذ بقي حجم التداول عند معدّل 40 إلى 45 مليون دولار. وهذا يعني أنّ مبيعات المصرف المركزي للدولارات منذ ما قبل الانتخابات لم تتعدَّ حدود 20 مليون دولار يوميّاً (نظريّاً، نصف التداول هو حجم تدخّل مصرف لبنان). ما يعني أنّ ارتفاع سعر الصرف كان من خارج لعبة العرض والطلب عبر المنصة، خصوصاً أنّ حجم استهلاك المحروقات قبل الانتخابات وبعدها ثابت كما هو ولم يتغيّر، وحتّى استهلاك الموادّ الغذائية هو نفسه، بل على العكس فإنّ عدداً كبيراً من المواطنين آثر خفض استهلاكه إلى حدوده الدنيا منذ ما قبل الانتخابات.
العرض أكبر من الطلب؟
تكشف أوساط مكاتب الصيرفة في بيروت لـ”أساس” أنّ كفّة الدولارات “طابشة” لمصلحة العرض، خصوصاً في الحالات الفردية. وبمعنى آخر فإنّ الناس تتوجّه إلى الصرّافين لتبيع دولاراتها وليس لشرائها، وبالتالي فإنّ ارتفاع الدولار في نظرها “لم يعد مفهوماً ولا مبرّراً”.
في المقابل، تقول الأوساط نفسها إنّ الطلب الفردي على الدولار شبه مفقود، وهو مقتصر على الصرّافين الكبار، وهذا يعني أنّ هناك “جهة نافذة تطلب هذه الدولارات”، فيلجأ إليها صغار الصرّافين ومتوسّطو الحجم منهم، من أجل رفد جواريرهم بالليرات اللبنانية. أي أنّ وجهة تسرّب الدولارات تبدأ من المواطنين لتصل إلى جوارير “كبار القوم”، الذين يأتمرون بدورهم بتوجّهات المصرف المركزي وبالأسعار التي يرسمها، لأنّه الجهة الوحيدة القادرة على مدّ الجميع بالليرات اللبنانية.
أمّا أوساط مصرف لبنان فتُقرّ صراحة بوجود طلب مرتفع على الدولار في هذه المرحلة، من دون أن تبوح بهويّة هذه “الجهة”. وتبرّر هذا الطلب المرتفع بـ”الحاجة إلى الدولار من أجل سدّ فواتير المحروقات المرتفعة، وكذلك فواتير الموادّ الاستهلاكية”.
نظرية “جذب المغتربين”
توافق الأوساط نفسها على أنّ رفع سعر صرف الدولار في هذه المرحلة “مفيد” لخزينة الدولة في عملية ضبط حجم الخسائر، خصوصاً أنّنا في خضمّ البحث في مصير خطة التعافي وتوزيع هذه الخسائر، ومفيد أيضاً في عملية “رسم الانطباعات العامّة لدى المغتربين”. فثمّة فرق بين أن تساوي ورقة الـ100$ نحو 2.7 مليون ليرة أو أن تساوي 3.4 أو 3.5 مليون ليرة. في نظر هذه الأوساط فإنّ الرقم “مغرٍ، وقد يساهم في جذب المغتربين والسيّاح إلى لبنان”.
لا تستبعد هذه الأوساط في المقابل أن يعاود سعر صرف الدولار الهدوء خلال الأسابيع المقبلة، مع بداية عودة هؤلاء إلى لبنان، وبالتالي تكون هذه الأوساط قد قدّمت بهذا الكلام “التبرير المبطّن” لانتفاء حاجة مصرف لبنان إلى التدخّل بغية لمّ الدولارات مع بداية شهر حزيران، لأنّ وفرة الدولارات تكون قد تأمّنت نتيجة تهافت المغتربين إلى لبنان.
لكن بمراجعة الأرشيف، فإنّ الأرقام تظهر عدم صواب هذه الفرضيّة. كانت أشهر الصيف ومواسم السياحة والاصطياف على مدى السنتين الفائتتين تسجّل أكبر الارتفاعات: ففي صيف العام 2020 قفز سعر صرف الدولار من نحو 5 آلاف إلى 9 آلاف مسجّلاً رقماً قياسياً لم يرَه من قبل في حينه، وكذلك خلال صيف العام 2021، ارتفع من قرابة 9 آلاف ليرة إلى نحو 23 ألفاً… والله وحده يعلم ماذا ينتظرنا خلال الصيف المقبل.
إلى حينه، فإنّ الضريبة الكبرى سيدفعها المواطنون المقيمون، وخصوصاً المقيمين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، الذين سيواجهون سلعاً مسعّرة بدولار 35 ألفاً وربّما 40 ألفاً بغير وجه حقّ، وبلا حسيب ولا رقيب، حتّى لو عاد سعر الصرف إلى الانخفاض.
تكفي الإشارة إلى حجم تآكل العملة لمعرفة ما آل إليه حال اللبنانيين نتيجة هذه الألعاب والحسابات “الظرفية”: بعدما كانت ورقة الـ100 ألف ليرة تساوي قبل نحو 3 سنوات 66.7$ انحدرت في غضون سنة إلى 6.67 دولارات، ثمّ وصلت قبل شهرين إلى 4.5$، ثمّ قبل أسبوعين باتت 3.7 دولارات، واليوم هي أقلّ من 3 دولارات… “والحبل ع الجرّار”.
المصدر: عماد الشدياق – اساس ميديا