لم تعد العلاقة بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي تستند إلى أي من العوامل الاقتصادية وقواعدها أو المؤثرات الخارجية لاسيما السياسية منها. فقد دخلت مرحلة من الفوضى، إن لجهة تسعير الدولار مقابل الليرة، أو لجهة التداول به والإقبال على شرائه، ليبقى الثابت الوحيد في ازمة الدولار وانفلاته اليوم هو شح السوق من العملة الخضراء، وسط عجز مصرف لبنان عن تأمينها، في بلد تفوق نسبة دولرة اقتصاده الـ80 في المئة.
مسار انحداري عام
في ظل الفوضى القائمة اليوم في الأسواق التجارية والسوق السوداء، التي لم تعد حكراً على الدولار بل باتت تشمل الخبز والدواء وأحياناً المحروقات وغيرها، أصبح من السهل على التجار الدخول بمضاربات واحتكارات، تستهدف رفع سعر صرف الدولار وتقليص قيمة العملة الوطنية بشكل متسارع، كما هو حاصل منذ أيام، عقب الانتهاء من استحقاق الانتخابات النيابية. لكن الفوضى الراهنة في سوق الصرف لا تقتصر على المضاربات فحسب، إنما تعود أيضاً لعوامل متلاحقة، تبدأ من الأزمة المالية والنقدية غير منظورة الأفق، مروراً بشح الدولار وعجز مصرف لبنان عن الاستمرار بضخ الدولارات، ووصولاً إلى سوداوية المشهد السياسي، الذي لا يبشر بسهولة إقرار مجلس النواب للقوانين المتعلّقة بالإصلاحات المُستحقة، لتسيير عملية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
تلك العوامل وغيرها تدفع بالليرة اللبنانية للدخول في المجهول إلى أجل غير مسمّى. ونظراً إلى اتساع نطاق الدولرة في الاقتصاد اللبناني والتعاملات والخدمات في مقابل شح الدولار في البلد، فقدت السلطات النقدية السيطرة تدريجياً على سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وباتت الأخيرة رهن التقلبات مع استمرار مسارها العام الانحداري أمام الدولار.
فوضى التسعير
ولأن الأجواء السياسية والمالية العامة لا توحي بحلول قريبة الأمد، ووفقاً للتوقعات المتشائمة حيال سعر الصرف في المرحلة المقبلة، يتّجه التجار إلى تكريس أسعار متقدمة جداً لسعر صرف الدولار، بذريعة تجنب الوقوع في خسائر. ولا يخفي تعاملهم بأسعار صرف تتراوح بين 35 ألف ليرة و36 ألف ليرة للدولار، في حين تسعّر العديد من المتاجر منتجاتها بما يفوق 35 ألف ليرة للدولار الواحد للحفاظ على أرباحها ورساميلها.
فوضى تسعير الدولار يعزّزها تقليص مصرف لبنان لعمليات ضخ الدولار عبر منصة صيرفة، وتالياً توقف المصارف عن بيع الدولارات لعموم العملاء، وحصرها في فئات محدّدة، والتعامل باستنسابية مطلقة بمسألة بيع الدولارات وفق سعر منصة صيرفة، لاسيما بعد اتساع فارق التسعير بين منصة صيرفة والسوق السوداء. وحسب منصة صيرفة يوم الجمعة 20 أيار، الفائت بلغ سعر صرف الدولار 23 ألفاً و900 ليرة، في حين تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء 32 ألف ليرة.
لا سقف للدولار
بالنتيجة، بات من المُستبعد توقّع بلوغ سعر صرف الدولار سقفاً معيناً في ظل الفوضى الحاصلة. كما من غير المُستبعد أن ينخفض سعر الصرف بشكل مفاجئ من دون أي تبريرات علمية، لاسيما أن مصرف لبنان باشر سحب يده تدريجياً من مسألة ضبط سعر الصرف، التي تمسّك بها لأشهر قبل الانتخابات النيابية. وهو ما يؤكد أن سياسة تثبيت سعر صرف الدولار لأشهر بين 20 ألف ليرة و23 ألف ليرة لم يكن سوى إجراء “انتخابياً” يستهدف تمرير الاستحقاق فقط. وعليه، من غير المحتمل أن يستمر سعر الصرف بالتراجع في المرحلة الراهنة والقريبة، بالنظر إلى عمق الأزمة وغياب المعالجات الطارئة، واستفحال المضاربات على العملة. وطبعاً، بالنظر إلى ضبابية الرؤية حيال ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
أما ضبابية المشهد السياسي والاقتصادي والمالي، فمرده حسب مراقبين، إلى احتمال دخول البلد في مرحلة من الفراغ الحكومي والمؤسساتي، في حين لا يمكن لحكومة تصريف الأعمال الحلول محل حكومة فعلية، لجهة اتخاذ قرارات مصيرية، منها إبرام أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
أمام ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء لما يفوق 32 ألف ليرة، واقترابه من بلوغ مستويات قياسية جديدة، ترتفع المخاوف من وقوع انفجار اجتماعي بعد اتساع دائرة الفقراء والمعوزين، ومنهم آلاف الموظفين الذين باتوا عاجزين عن تأمين معيشتهم، خصوصاً مع ارتفاع أسعار المحروقات والأدوية والمواد الغذائية وكافة المواد الاستهلاكية والخدمات بشكل جنوني.
المدن – عزة الحاج حسن