كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
ابتداءً من غد تنقلب الأدوار بين نواب سابقين وحاليين، وتنطلق الخطوات الدستورية المؤدية الى اكتساب المجلس النيابي الجديد مواصفاته الدستورية، تزامناً مع دخول الحكومة مرحلة تصريف الأعمال. وهو ما سيطلق النقاش حول صلاحياتها، وما هو مسموح به وما هو محظور. وهو نقاش قديم ـ جديد، يستحضر فيه فقهاء الدستور فتاويهم المنطقية، وتلك «غبّ الطلب». وعليه، ما الذي سيقود إليه هذا الجدل؟
نصّت المادة 64 الواردة في الفصل الرابع المخصّص لـ»السلطة الإجرائية» في الدستور، على ما يحدّد ويوصف دور وصلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه والمواقع الحكمية التي يكون فيها وفقاً للقانون المعدّل والصادر في 18 تاريخ 21/9/1990. وإلى اعتبار انّ رئيس الحكومة هو من يمثلها ويتكلم باسمها، ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، فإنّه يحدّد آلية العمل في مختلف المجالات، بما فيها مرحلة تصريف الاعمال.
وعليه، فإنّ الفقرة الثانية من المادة عينها (المادة 64) قد نصّت على: «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال». وهي بذلك تتحول حكومة تصريف أعمال، تقوم بكل الأعمال العادية الجارية، والتي من صلب موجباتها على المستويات كافة، والتي تشكّل أداة لضمان استمرارية المرفق العام. كما يعني ذلك «انّ الحكومة تصبح غير خاضعة لمساءلة مجلس النواب لناحية حجب الثقة او انتفائها»، فكيف بالنسبة ان كان هذا المجلس الذي سبق له ان منحها الثقة قد أنهى ولايته الدستورية، وفَقَد كل الصلاحيات المناطة به وسلّم الأمانة الى مجلس نيابي كان قد انتُخب للتو وبدأ ولايته الجديدة بحكم الدستور.
ليس في ما سبق من هذه القراءة الدستورية ما يسمح بمزيد من التفسيرات المختلفة، فهي واضحة وضوح الشمس إلاّ في لبنان. فقد قادت التجارب السابقة الى اندلاع جدل في اكثر من مرحلة تصريف أعمال، سبق وأن انتقلت إليها الحكومات السابقة طوال العقود الماضية، بحثاً عن إمكان تجاوز هذه العقدة الدستورية. فالتاريخ القديم والحديث يتحدث عن جدل يرافق السعي الى انعقاد حكومة تصريف الأعمال، لتعمل كما كانت قبل دخولها هذه المرحلة او العكس. وقد توسعت الفتاوى والقراءات، ومارست حكومات مهماتها المعتادة في اكثر من مناسبة، وخصوصاً في الحالات الطارئة، لتسيير أمور الدولة، مُنعت من القيام بها في حالات أخرى.
وإن بلغ النقاش هذه المرحلة، فإنّ العودة ممكنة إلى حالات كان فيها الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً لها كما في العامين 2005 و2011 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتعثر مهمّة الرئيس الرئيس تمام سلام في تشكيل حكومته على مدى احد عشر شهراً، قبل ان ينجز مهمّته. وحين تعثر انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال سليمان عام 2014 وعلى مدى 29 شهراً، أقرّت الحكومتان في مناسبات مختلفة مراسيم النفط، وسيّرتا امور الدولة وفق آليات اختلفت بين مرحلة وأخرى. كما أجرتا تعيينات إدارية، وشُكِّلت هيئة الإشراف على الانتخابات عام 2013 قبل ان تتعثر في إجرائها. كما تمّ التمديد للمجلس اربع سنوات واشهراً عدة الى العام 2018، قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في ايار العام 2014.
وبمعزل عن هذه الحالات السابقة وما رافقها وتلاها من مؤشرات، فإنّ المرحلة التي ستعيشها حكومة ميقاتي الحالية، بعد ايام قليلة على دخولها مرحلة تصريف الأعمال، تتسم بعدد من المعطيات المغايرة. فالمرحلة المقبلة الفاصلة عن نهاية ولاية الرئيس ميشال عون مليئة بالاستحقاقات الكبرى، وستفرض اداءً آخر قد يختلف عن الحالات السابقة وما رافقها من أعراف، قد تتحول في لبنان قواعد ثابتة يمكن الاستعانة بها عند الحاجة، لتبرير عمل ما لا بدّ منه ولا يمكن تأجيله. وهو ما توقفت عنده مراجع حكومية ودستورية لتشير الى الملاحظات الآتية في الشكل والمضمون:
– في الشكل، لا بدّ من الإعتراف بأنّ دخول الحكومة الحالية مرحلة تصريف الأعمال هذه المرة مختلف عن السابق. فهي ستواجه بصلاحيات منقوصة – إن لم تُشكّل الحكومة البديلة منها – سواء كُلّف ميقاتي او غيره، فإنّه سيكون عليها بتّ كثير من القرارات الملحّة، وخصوصاً تلك الخاصة بتنفيذ التزامات لبنان المرتبطة بالإصلاحات المطلوبة بعد توقيع الاتفاق مع صندوق الدولي على مستوى الموظفين، من ضمن المِهَل المقرّرة، ومعها القرارت الخاصة بتسيير المرافق العامة في قطاعات حيوية كالطاقة والاتصالات، وأخرى معيشية كالدواء والقمح والمحروقات. وليس بعيداً من اليوم، سيكون على هذه الحكومة ان تستعد لإجراء الانتخابات الرئاسية في مهلة اقصاها بداية مهلة الأيام الستين التي تسبق نهاية ولاية رئيس الجمهورية في 31 تشرين الأول المقبل .
– اما في المضمون، فإنّ الحديث من اليوم عن مرحلة تصريف الاعمال وطريقة ادارتها محكوم بالمناكفات التي ما زالت قائمة بين اهل الحكم والحكومة. ذلك انّ إصرار رئيس الجمهورية ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» على اتخاذ بعض القرارات في شأن التعيينات الإدارية وإقصاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قد يكون مستحيلاً في ظلّ مرحلة «تصريف الاعمال»، رغم انّها اهداف ملحّة بالنسبة إليهما، ولم يوافقهما بعد لا رئيس الحكومة ولا رئيس مجلس النواب نبيه بري، حيث يصرّان على انتهاء الفترة المتبقية من العهد من دون ان يتحقق أي من هذه الخطوات اياً كان الثمن المقدّر لها على كل المستويات.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ مقاربة ملف صلاحيات حكومة تصريف الاعمال ستفتح قريباً، وما هو مرتقب ان ترتبط المواقف الحادة منه بوجهيها السلبي والإيجابي، بحدّة المواقف الناشئة عن معركة انتخاب رئيس مجلس النواب نبيه بري ونائبه وأعضاء هيئة مكتب المجلس، لتبدأ بعدها المرحلة الثانية من النزاع المكشوف حول هوية الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة وشكلها المرغوب به، في ظلّ نزاع سيتخذ أشكالاً تصادمية، إن بقي الخلاف قائماً بين الدعوة الى حكومة «حيادية ومستقلة»، كتلك الحالية التي أدارت الانتخابات النيابية، واخرى «توافقية وسياسية» يريدها رئيس الجمهورية، ليس لإدارة المرحلة الفاصلة عن نهاية الولاية، بل من اجل ان يستمر قي إدارة مرحلة الشغور الرئاسي المحتمل، إن لم تفلح تجربة انتخاب الرئيس البديل.
وختاماً، وأمام هذه السيناريوهات المختلفة، والتي يؤدي كل منها الى مكان بعيد عن الآخر، فإنّ الحديث عن صلاحيات حكومة تصريف الاعمال سيتخذ اشكالاً مختلفة، تختلط فيها الآراء الدستورية التي تتفهم ما قصده المشرّع عند وضعه، وبين النية بترجمتها بحسب المواقف السياسية المفروزة على خلفية «عليّ وعلى اعدائي يا رب». وإن حصل العكس، فإنّ الاعتراف بعودة عصر العجائب واجب الوجوب.