هذه السطور قراءة أوليّة، قبل صدور النتائج الرسميّة، في ما آلت اليه الانتخابات النيابيّة، خصوصاً على الصعيد المسيحي، مع تراجع كبير في شعبيّة التيّار الوطني الحر وصعود في شعبيّة القوات اللبنانيّة وقوى التغيير، وخسارة لقب “المسيحي الأقوى”، مع ما يعنيه ذلك في الاستحقاقات المقبلة.
استُهدف جبران باسيل في “١٧ تشرين” وما بعده. ولكنّ جعجع استُهدف أيضاً اذ نمت مجموعات وبرزت شخصيّات تأكل من “الصحن القوّاتي”، وقد تحالف قسمٌ منها مع بعضها البعض حتى بدأت تبرز قوّة مسيحيّة جديدة يمكن اختصار تسميتها بـ “التغييريّة”. لولا هذه المجموعات لفاز “القوات” بمقاعد إضافيّة. لولا غياب تيّار المستقبل لكنّا شهدنا تسونامي لا سابق له في ظلّ قانونٍ نسبيّ. ولولا حزب الله لكان خسر “التيّار” مقاعد عدّة.
لم ينتخب قسمٌ كبيرٌ من المسيحيّين لـ “القوات” أو غيره. انتخبوا ضدّ حزب الله. جعل “الوطني الحر” نفسه حزب الله المسيحي، وهو مهما تباين عنه في بعض المحطات، فقد ظلّ غطاءً له حتى ما بعد منتصف ليل أمس حين خرج جبران باسيل ليتكلّم عن تجاوزات “القوات” الانتخابيّة من دون أن يقول كلمةً واحدة عن ارتكابات “الحزب” الموثّقة بالفيديوهات والصور.
اختار باسيل الخطاب الخطأ لخوض الانتخابات. قوله إنّ التصويت لـ “القوات” هو تصويت لداعش وإسرائيل أكسب جعجع عشرات آلاف الأصوات الإضافيّة. بينما ربح جعجع حين صوّر أنّ التصويت لـ “التيّار” هو اقتراع لحزب الله.
وخسر باسيل خصوصاً حين أراد خوض انتخابات مزدوجة، في الداخل والخارج. هو خاض معركةً مفضوحة لإسقاط مرشّحين لـ “التيّار” لصالح آخرين، فنجح معارضوه جميعاً، وبات غير متحكّمٍ تماماً بتكتله النيابي. بعد ٣١ تشرين الأول ٢٠٢٢ قد تختلف أمورٌ كثيرة.
وخسر حين اختار صحافيّاً فاسداً ومتلوّناً ليخوض له معركته الإعلاميّة، وحين ظنّ نائبه أنّ ضرب المواطنين يشدّ العصب، بينما تراجع دور بعض الوجوه العقلانيّة في “التيّار”، فخسر قسماً كبيراً من الفئة المعتدلة التي كانت ترى سابقاً في “التيّار” نقيضاً للميليشيا.
وخسر حين أعاد ترشيح نوّاب حقّقوا صفر إنجازات في المجلس الحالي، على قاعدة الولاء لا الكفاءة. وهي القاعدة نفسها التي جعلته يواجه ابراهيم كنعان في المتن، التي باتت حربه مع ادي معلوف لا مع سامي الجميّل، وسيمون ابي رميا في جبيل التي باتت حربه مع وليد خوري لا مع زياد حواط. ولا ننسى انتقاده العلني لزياد اسود وامل ابو زيد عشيّة الانتخابات. هل يُعقل أن ينتقد رئيس حزبٍ مرشّحيه قبل يومٍ تقريباً من الانتخابات؟
إنّ قراءة تراجع التيّار الوطني الحر تحتاج الى وقتٍ وإسهاب. هذه قراءة سريعة. الخلاصة أنّ استمرار باسيل، وهذا ما هو متوقّع، في أسلوب الإنكار من جهة، وإحاطة نفسه بالمصفّقين والمتلوّنين أكثر من المفكّرين من جهةٍ ثانية، والعودة الى الماضي الذي يريد الجميع أن ينساه من جهة ثالثة، والتناقض في كلامه ومواقفه، كمثل تأييد السلام مع إسرائيل وتحالفه مع حزب الله من جهة رابعة، وخوضه الحروب الداخليّة من جهة خامسة، وإصراره على حصّة الأسد في الحكومات والتعيينات بحجّة حقوق المسيحيّين من جهةٍ سادسة، وعدم الاعتراف بالعجز واستبداله بسياسة “ما خلّونا” من جهةٍ سابعة، استمرار باسيل في ما سبق كلّه يعني أنّ الخسارة ستستمرّ.
وحده التراجع عمّا سبق كلّه وبناء الجسور مع الآخرين، خصوصاً مسيحيّاً، واعادة النظر في التحالفات والمواقف، والغياب عن الحكومات، قد يؤمّن عودته.
على جبران باسيل أن يختار…