إذا عرفت أنّ الاقتصاد اللبناني كلّه بات متوقّفاً على تحويلات المغتربين، ستدرك أهميّة شركات تحويل الأموال. أمّا إذا عرفت أنّ 80% من حصّة هذا السوق بيد شركة واحدة، فستتعرّف إلى قيمة OMT.
القول إنّ شركة OMT هي سند المواطن اللبناني في زمن الأزمة الاقتصادية، لا مبالغة فيه. فمن خلال هذه الشركة يدخل لبنان بين 100 و120 مليون دولار شهريّاً من نحو 175 دولة حول العالم، وإلى نحو 225 ألف مستفيد، أي 225 ألف عائلة داخل لبنان.
شركة OMT هي قصّة نجاح صامتة، استطاعت أن تنمو وتتقدّم في زمن الأزمات التي تضرب جميع القطاعات في البلد، فكبرت وانتشرت وباتت اليوم لا تنافس المصارف بالخدمات التي تقدّمها فحسب، بل أصبحت أحد أهمّ مصادر المصرف المركزي للدولارات “الفريش”، مع انسداد أفق الإصلاح والهيكلة الموعودَيْن في القطاع المصرفي. إنّها وعود تتقاذفها الاستحقاقات وتتهرّب منها الحكومات، فساهمت وأذكت تبخّر ثقة الناس بالمصارف، التي يبدو اليوم أنّ عودتها ستأخذ الكثير من السنوات ومن مراكمة الجهود.
باب المصعد في أحد مباني الشركة في منطقة الطيّونة – سامي الصلح، يفصل بين “لبنان المأزوم”، وبين عالم آخر من عوالم المال، وكأنّ المصعد “آلة زمن”: مفروشات مكتبية عصرية من زمن “الألفيّة الثالثة”، ألوان فرِحة وخشبيّات عصرية، وطبعاً موظّفون وموظفات بلطافة بالمضيفات، منتشرون بين الطوابق، حيث لكلّ طابق فريق، ولكلّ فريق مجموعة من المهامّ والوظائف المحدّدة.
قوّة الانتشار… وخدمات جديدة
تستمدّ OMT قوّتها من حجم انتشارها. إذ تملك الشركة أكثر من 1,200 فرع منثورة كالفطر على الخارطة اللبنانية، وتقدِّم أكبر “بورتفوليو” ((portfolio خدمات، ولها أكبر شبكة فروع لا تنقطع عنها السيولة على الإطلاق.
دفعت أزمة المصارف، التي ضربت لبنان قبل أكثر من سنتين، بالشركة نحو خوض غمار أعمال إضافية لم تكن لتعمل بها. فقد اضطرّتها الأزمة وشحّ الأموال في المصارف إلى إنشاء “نظام تسديد” خاصّ بها. قبل أزمة المصارف كان وكيل كلّ فرع من فروع الشركة الـ1,200 يتعامل مع المصرف، حيث للشركة حسابات هي بمنزلة محطّة دائمة للوكلاء: يودعون بها الأموال ويسحبونها منها. لكن بعد توقّف المصارف عن دفع الدولارات، وبدء “تقطير” الليرات اللبنانية، باتت الشركة بحاجة إلى مصدر آخر لم يكن موجوداً، فما كان من OMT إلا أن أوجدته.
طوّرت الشركة نظام دفع خاص، وهو عبارة عن عدد من المراكز الرئيسية في المناطق (نحو 60 مركزاً) وظيفتها تلقّي وتوزيع الأموال على الوكلاء في كلّ المناطق اللبنانية. لولا هذا النظام لَما تمكّنت الشركة من تلبية حاجات الناس بشكل يومي وسريع، ولهذا استطاعت الشركة أن تحدّ من معاناة اللبنانيين، وأن تُسكّن آلاماً تسبّب بها “تهوّر” المصارف. لولا هذا النظام لكان توفير الدولارات “الكاش” يوميّاً وبهذه السرعة أمراً مستحيلاً.
لدى الشركة نحو 40 سيارة مجهّزة لنقل الأموال ومزوّدة بالحراسة، مضافة إلى عديد الآليّات الخاصّة بالشركات المتخصّصة في نقل الأموال بين المصارف، والتي تتعامل معها أيضاً OMT. تكشف أوساط الشركة لـ”أساس” أنّ “هذه المهمّة كبّدت OMT أعباءً إضافية، وهذه الأعباء كانت سبب فرض رسم 2% الذي تقتطعه من كلّ حوالة”.
فرص عمل جديدة
نتيجة التضخّم في العملة، اضطرّت الشركة إلى زيادة عدد العاملين لديها، فخلقت فرص عمل في زمن ازدهار البطالة، من أجل استيعاب حجم العمل الإضافي المطلوب لنقل الليرات والدولارات وفرزها وعدّها وتوضيبها وتوزيعها… ناهيك عن بوالص التأمين على نقل الأموال في الداخل اللبناني الخاصة بالسيارات وبحجم الأموال المنقولة بين المناطق على مدار الأسبوع التي تُدفَع بالدولار “الفريش” (نقل الدولارات “الفريش” = تأمينها بالدولار “الفريش”)، والشروط الإضافية لناحية عديد موظفي الأمن والحراسة لكلّ سيارة التي تفرضها شركات التأمين.
فوق ذلك كلّه، لا تختلف رسوم كلفة شحن الأوراق المالية إلى الخارج وفق الفئات، لأنّ كلفة شحن ورقة المئة دولار هي نفسها للدولار الواحد، وهذا يرتّب أعباءً إضافية على الشركة، التي تضطرّ إلى تأمين فئات صغيرة من عملة الدولار (دولار واحد، و5 و10 و20 دولاراً) لتستطيع تلبية حاجات الناس، ودفع التحويلات المتواضعة التي ارتفعت نسبتها بشكل كبير أخيراً نتيجة الانهيار.
تحويلات الفقراء
تشير الأرقام إلى أنّ 71% من تحويلات العام 2021 كانت تحت سقف 500$، بينما 5% من مجمل التحويلات كانت تحت 50 دولاراً فقط. هو رقم صادم جدّاً، ويكشف الدرك الذي وصل إليه اللبنانيون، الذين صاروا ينتظرون حوالة شهرية بـ50 أو 40 أو 30 أو حتّى 20 دولاراً، كانت يوماً ما ثمناً للوقود الذي ينقلهم إلى العمل بشكل يوميّ، ولا ينتبهون إليه.
لكنّ هذا كلّه كان سبباً أدّى إلى نشوء Business جديد قائم بذاته، اضطرّت OMT إلى خوض غماره بعد أزمة المصارف. وهذه التفاصيل لا يعلمها المستهلك الأخير (متلقّي الحوالة) وليس من شأنه الدخول فيها. لذلك الشركة الآن هي بحجم شركة تحويل ونقل أموال.
إلى جانب تحويل الأموال ونقلها في الداخل، تقدّم OMT خدمات أخرى لا تعرفها الناس، منها توزيع المساعدات الخاصة بالمنظمات الدولية أو جمعيّات المجتمع المدني على المحتاجين. تستعين هذه المنظمات بالشركة من أجل اختصار المسافات والتخلّص من الزحمة على شبابيك صناديقها، فتلقي هذه المهمّة على OMT التي تتكفّل بدفع الأموال للمستهدَفين من خلال فروعها، لقاء مبلغ رمزيّ زهيد. ناهيك عن خدمة توطين الرواتب للشركات الكبرى. فلدى الشركة خدمة من هذا النوع تسمح للشركات الكبرى بالاستعانة بقدراتها من أجل دفع الرواتب بدل الصرّافات الآليّة الخاصة بالمصارف و”قرف” شحّ الأموال وتقطيرها.
بطاقات “مصرفية” غير مصرفية
أمّا الخدمة الأهمّ فهي بطاقة OMT البلاستيكية، التي تصدرها عبر مصرف محلّي، لكن ليس بشروط المصارف ومضايقاتها. هذه البطاقة تشبه “حساب التوفير”، الذي يودِع فيه العميل المال، بالليرة اللبنانية وبالدولار على السواء، ويمكن استخدامها لشراء السلع بالعملتين، والسحب منها بالعملتين في أيّ وقت وبلا قيود. أهميّة هذه البطاقة أنّه يمكن استخدامها خارج لبنان بلا أيّ عوائق، ويمكن أن يصل سقف وديعة في هذه البطاقة إلى 10 آلاف دولار “فريش”، وهي مهمّة جدّاً للّذين تضطرّهم أعمالهم إلى السفر دوماً.
نتيجة الأزمة، توقّفت المصارف عن تقديم التسليفات، ففقدت أهمّ ميزة تُكسبها اسم “مصرف”. أمست بمنزلة “صندوق” أمانات لتلقّي كلّ قرش من الخارج عبر الحوالات المصرفية. أضحت “حصّالة” نقود، أو “قجّة مشروطة”، تُسحب منها الأموال على هواها وليس على هوى العميل أو قدرته الماليّة. فما الفرق بين مصارف اليوم وشركات تحويل الأموال في زمن الـ”لا إصلاح”؟
لا شيء. بل على العكس، فإنّ الخدمات التي تقدّمها الشركات، خصوصاً OMT، تجعل منها بديلاً منطقياً بديهيّاً عن المصارف.
فهل تحلّ مكانها؟
تقوم الشركة بواجباتها على أتمّ ما يُرام، بينما الإجابة على هذا السؤال لدى القطاع المصرفي نفسه والسلطة السياسية.
ch23