هل ستدخل البلاد في المجهول على صعيد الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي بعد الانتخابات النيابية؟ سؤال مطروح، والجواب عليه غير مُطمئن في ظل توقعات بأن تطول فترة تشكيل حكومة جديدة، وتستمرّ الحكومة الحالية في تصريف الاعمال من دون وجود سلطة قادرة على اتخاذ أي قرارات او إجراءات ملحّة ومطلوبة للسير في مسار الاصلاح المطلوب.
ستكون مهمة المجلس النيابي الجديد شاقة، وأولوياته كثيرة، أوّلها إقرار مشاريع القوانين التي تعتبر ضرورية للسير قدماً بالاتفاق المبدئي الموقّع مع صندوق النقد الدولي، وتحويله الى برنامج إنقاذ ودعم مالي، علماً انّ في حوزة المجلس النيابي قانونين فقط هما الكابيتال كونترول ومشروع الموازنة، من أصل مجموعة قوانين عليه اقرارها لتلبية شروط الصندوق. فهل ستنجح الحكومة الحالية في آخر جسلة لها في 19 أيار الحالي، في اقرار قانون اعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحويله الى مجلس النواب الجديد الذي سيتحمّل مسؤولية إقراره بالاضافة الى كافة القوانين الاصلاحية التي تعتبر الاعمدة الاساسية لخطة التعافي الاقتصادي؟
تجدر الاشارة الى انّ الاجراءات الاولية المطلوب اقرارها وتنفيذها تمهيداً لتوقيع الاتفاق االنهائي مع صندوق النقد الدولي هي:
اقرار مشروع اعادة هيكلة القطاع المصرفي لمعالجة الخسائر المالية المقدرّة بـ73 مليار دولار والتي تشكل 300 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، اقرار مجلس النواب لتشريع طارئ ملائم لتسوية الأوضاع المصرفية على النحو اللازم لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة البنوك والبدء في استعادة صحة القطاع المالي.
الشروع في تقييم أكبر 14 مصرفاً، كل على حدة، بمساعدة خارجية من خلال التوقيع على نطاق التكليف مع شركة دولية مرموقة، موافقة البرلمان على تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، الانتهاء من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان المستمرّ منذ عامين، موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين، اقرار البرلمان لموازنة 2022، قيام مصرف لبنان بتوحيد أسعار الصرف القائمة منذ 2019.
وبما ان مجلس النواب الجديد، إذا ضمّ أو لم يضمّ أعضاء مستقلين واصلاحيين ونواة تغيير، سيُعاود درس مشاريع القوانين الاصلاحية من خلال تشريحها مجددا في اللجان النيابية، والعودة ربما الى طلب صياغة خطة تعاف اقتصادي جديدة لتوزيع الخسائر بشكل مختلف بسبب الاعتراض الكبير على الخطة الحالية، فإنه على الارجح سيتم إرجاء توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسية اي إلى العام 2023، في وقت يعمل البنك المركزي، وبطلب من السلطة الحاكمة على هَدر ما تبقّى من احتياطي عملات اجنبية، لتهدئة الوضع المالي ومنع انفلات سعر الصرف الى سقوف لا يمكن تحديدها، الى حين الانتهاء من الانتخابات النيابية.
ولكن هل يملك مصرف لبنان القدرة بعد على مواصلة ما قام به خلال السنوات الاخيرة، وهو «شراء المزيد من الوقت» للسلطة من خلال استخدام أموال المودعين، خصوصاً ان احتياطي العملات الاجنبية، من دون احتساب احتياطي الذهب وسندات اليوروبوندز والاحتياطي الالزامي للمصارف أصبح 0,6 مليار دولار وفقا لتقديرات معهد التمويل الدولي؟ وبالتالي هل سيتمكن مصرف لبنان من مواصلة ضخ الدولارات لتثبيت سعر الصرف عند مستوياته الحالية، وصولاً الى مرحلة الانتخابات الرئاسية أم انه سيتوقف عن دعم الليرة بعد الانتخابات ليشهد الوضع المعيشي في المرحلة المقبلة انفجاراً أكبر؟
في هذا الاطار، دعا الخبير السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد الى تحرير الاقتصاد في أقصى سرعة ممكنة، أي تحرير سعر الصرف كخطوة اولى، معتبرا انّ من لم يعرف كيف يدير الاقتصاد منذ اكثر من عامين ونصف العام على اندلاع الأزمة عليه ان يحرّره، «وهذا ما قامت به الصين والاتحاد السوفياتي بعد فشلهما في ادارة الاقتصاد، وهو الامر الذي ساهم في تحسين الوضع الاقتصادي».
وشرح راشد لـ»الجمهورية» انّ تحرير سعر الصرف سيؤدي في نهاية المطاف الى تحسّن سعر صرف الليرة وليس العكس، حيث ان اعتماد سعر صرف موحد في كافة المعاملات المالية والمصرفية والتجارية سيؤدي الى تحرير السوق والى تحسّن المالية العامة والى ارتفاع القدرة الشرائية للمواطنين، وبالتالي تحفيز الاقتصاد. اما في حال عدم تحرير سعر الصرف وتوقّف مصرف لبنان عن التدخل في السوق لدعم الليرة، فإنّ عجز المالية العامة سيتفاقم ويزداد الوضع سوءاً، مع الاشارة الى ان فترة الانتخابات النيابية ساهمت في تدفّق سيولة اجنبية من الخارج استخدمت من قبل مصرف لبنان لدعم سعر الصرف، إلا ان تلك التدفقات لن تستمرّ وقد يُعاود سعر الصرف الارتفاع مع شحّ السيولة بالعملات الاجنبية في حال لم يتم تحريره.
واشار راشد الى ان حكومة تصريف اعمال تفقد صلاحية إصدار القرارات التنفيذية والمراسيم واحالتها الى مجلس النواب، مما سيخلق أزمة ويشكل عقبة امام ابرام اتفاقيات مع مؤسسات دولية كصندوق النقد او البنك الدولي وغيرها، كون الاخيرة غير مستعدة للتعامل مع حكومات تصريف اعمال.
اما في حال تشكيل حكومة جديدة في فترة سريعة، فعلى الاخيرة معالجة الوضع وعلى عكس المسار الذي سلكته الحكومات السابقة والذي تميّز بالمراوغة والمماطلة في اتخاذ القرارات والاجراءات على غرار الوقت الطويل الذي استغرقته للتوصّل الى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي، مؤكداً ان الممطالة ستؤدي حتما الى تفاقم الوضع الاقتصاد والمعيشي اكثر واكثر. ورجّح راشد ان يكون هذا هو الاتجاه «لأن هناك صعوبة في تشكيل حكومة تكون سيّدة قراراتها وان تبادر الى اتخاذ القرارات والاصلاحات التي تصبّ في مصلحة المواطن اللبناني، والتي تضمن في الوقت نفسه ان تحظى بقبول شعبي، وليس فقط لتلبية شروط المؤسسات الدولية حرفياً وبشكل استنسابي، لأنّ الاجراءات التي تطلبها تلك المؤسسات لا تراعي حاجات البلاد وهموم المواطنين بل تضمن لها مصالحها، لافتاً الى ان نصّ القوانين الاصلاحية على قياس متطلبات المؤسسات الدولية من دون ملاءمتها مع حاجات المواطنين سيؤدي الى عدم إقرارها في مجلس النواب.
لذلك، اعتبر راشد انّ الحكومة الجديدة، في حال تم تشكيلها، يجب ان تكون قويّة وان تبادر الى وضع سياسات تناسب الوضع الحالي على ان تضمّ فريقاً يمتلك خبرات تقنية ومعرفة عريقة في معالجة الأزمات يَعي كيف يسيّر البعثات الدولية بدلاً من ان يكون مُسيّراً.