في منتصف شهر آذار الماضي، قرّر الاحتياطي الفيدرالي (الذي يلعب دور البنك المركزي الأميركي) رفع أسعار الفوائد الأساسيّة بمقدار ربع نقطة مئويّة، لينتقل نطاق هذه الفوائد من “صفر-0.25%” إلى “0.25-0.5%”. مع الإشارة إلى أنّ الاحتياطي الفيدرالي يقوم في العادة بتحديد نسبة الفوائد المستهدفة ضمن هامش أو نطاق معيّن، وحسب تقديراته لنسب التضخّم والنمو الاقتصادي الحاليّة والمتوقّعة، وحسب الأهداف التي تضعها لجنته للسياسة النقديّة. على أي حال، يومها، ورغم محدوديّة الزيادة التي حصلت في نسب الفوائد في منتصف آذار، تسببت هذه الزيادة بضغوط قاسية على الاقتصادات النامية، التي عانت من نزوح “الأموال الساخنة” باتجاه الغرب بمجرّد رفع الفوائد هناك. ولعل هذه الضغوط بالتحديد كانت إحدى العوامل التي فرضت على مصر تخفيض سعر صرف عملتها المحليّة، بالتوازي مع الضغط على ميزان مدفوعاتها.
الآتي أعظم
لكن حتّى اللحظة، لا يبدو أن أسوأ ما يمكن أن يحدث قد حدث بعد، بل ثمّة ما يوحي أن “الآتي أعظم” بالنسبة للاقتصادات الناشئة والدول النامية، ومنها لبنان ومصر وتركيا ودول المنطقة. وكالة فيتش أعلنت أخيرًا أنّها تتوقّع أن تصل معدلات الفوائد الأميركيّة إلى حدود 2% في ختام العام الحالي، أي إلى نحو أربعة أضعاف الحد الأقصى لمعدلات الفوائد المستهدفة اليوم من قبل الاحتياطي الفيدرالي (النطاق المستهدف حاليًّا هو بين 0.25 و0.5%). وهذه الزيادة، ستعني عمليًّا رفع الفوائد بحدود 1.5%، ما يعني أن نسبة ارتفاع الفوائد ستتجاوز ستّة أضعاف الارتفاع الذي حصل في منتصف شهر آذار (اقتصر على زيادة بنسبة ربع في المئة)، والذي أدّى إلى خضّة في أسواق المال العالميّة. مع الإشارة إلى أنّ رئيس الاحتياطي الأميركي جيروم باول أشار إلى أنّ استئناف رفع الفوائد قد يبدأ من شهر أيّار المقبل، حين ينوي مجلس الاحتياطي الفيدرالي مناقشة زيادة نسبة الفوائد على الدولار بنسبة نصف في المئة هذا الشهر، على أن يتم إجراء الزيادات المقبلة بشكل متدرّج قبل نهاية العام الحالي.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التحليل ليفهم أسباب الاندفاعة الأميركيّة خلف زيادة معدلات الفوائد. فرفع معدلات الفوائد، بهدف لجم السيولة المتداولة وامتصاصها إلى قلب النظام المالي، يمثّل الأداة الفضلى التي تملكها المصارف المركزيّة لضبط معدلات التضخّم المرتفعة. وهذا تحديدًا ما يحاول الاحتياطي الفيدرالي فعله اليوم. ففي الوقت الراهن، تشير مؤشرات السوق الأميركي إلى أن مؤشّر أسعار المستهلكين، الذي يعكس معدلات التضخّم، ارتفع بحدود 8.5% على أساس سنوي، خلال شهر آذار الماضي. وبذلك، يحاول الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من خلال رفع معدلات الفوائد خفض معدلات التضخّم، والتي قد تؤدّي -في حال انفلاتها- إلى حالة غير مسبوقة من الركود الاقتصادي في المستقبل. مع العلم أن ارتفاع نسب التضخّم بات ظاهرة تؤرق الأسواق العالميّة، وخصوصًا بعد الارتفاع الذي شهدته أسواق النفط العالميّة، إثر الغزو الروسي لأوكرانيا.
هكذا، ومرّة جديدة، يُصاب الاقتصاد الأميركي بالزكام، فيعطس العالم بأسره. فتعديل الفوائد ورفعها تدريجيًّا، الذي سيبدأ في شهر أيّار ويستمر حتّى نهاية العام، وإن جاء مدفوعًا بحاجة الاحتياطي الفيدرالي للتعامل مع حاجات اقتصاد الولايات المتحدة، سيترك أثره على جميع اقتصادات العالم من دون استثناء، بما فيها الآثار السلبيّة القاسية على الاقتصادات الناشئة.
تداعيات قاسية على دول المنطقة
أولى دول المنطقة التي ستتأثّر بهذه التطورات خلال العام الجاري، ستكون مصر، التي دفعت أساسًا ثمن زيادة الفوائد الأميركيّة في منتصف شهر آذار، من خلال تفاقم العجز في ميزان مدفوعاتها، واضطرار المصرف المركزي المصري لإجراء تخفيضات إضافيّة في سعر صرف الجنيه المصري. ومع كل ارتفاع مرتقب في نسب الفوائد الأميركيّة، من المتوقّع أن تزداد هذه الضغوط، بما فيها تلك التي تطال قيمة العملة المحليّة وحجم التحويلات إلى الخارج. مع الإشارة إلى أن مصر تتجه أساسًا إلى طلب قرض إضافي من صندوق النقد الدولي، وللمرّة الرابعة خلال ست سنوات، بهدف توفير حاجاتها للعملة الأجنبيّة لشراء المواد الغذائيّة وسداد القروض الخارجيّة.
أمّا التداعيات الأخطر على الاقتصاد المصري، فستكون ارتفاع كلفة الاقتراض لإعادة تمويل الدين العام، والذي تجاوز حدود 137 مليار دولار خلال العام الماضي، وهذا ما سيزيد بدوره من الضغط على الميزانيّة العامّة للدولة. علمًا أن ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة سيؤدّي عمليًّا إلى زيادة فوائد الاقتراض بالدولار لجميع دول وشركات العالم، بالنظر إلى حاجة الأسواق الدوليّة لمواكبة الارتفاع الحاصل في الفوائد في الولايات المتحدة.
بالنسبة إلى دول كلبنان، ورغم خروج لبنان من أسواق الدين العالميّة منذ امتناعه عن سداد الديون عام 2020، ستؤدّي هذه التطورات إلى مزيد من الشح في العملة الصعبة، خصوصًا أن رفع الفوائد في الدول المتقدمة سيؤدّي إلى تراجع المعروض النقدي من العملات الصعبة في مختلف الأسواق. وهذه التداعيات بحد ذاتها ستؤدّي إلى المزيد من الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وعلى حجم تدفقات العملة الصعبة الواردة إلى السوق. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو زيادة التحديات التي ستواجهها البلاد خلال مرحلة التصحيح المالي في المستقبل، لجهة حجم القروض والهبات التي يمكن الحصول عليها من الخارج، إلى جانب القرض الذي يمكن أن تستحصل عليه البلاد من صندوق النقد الدولي. فارتفاع الفوائد وتراجع المعروض النقدي وشح السيولة في الأسواق، يؤدّي تلقائيًّا إلى تخفيض الميزانيات التي تضعها الدول والمؤسسات الدوليّة للقروض والمنح التي تستهدف دعم الدول المأزومة كلبنان.
ببساطة، سيكون العالم أمام تحوّلات كبيرة على مستوى حركة الأموال والتدفقات النقديّة بين الأسواق الناشئة والمتطوّرة، وستكون جميع دول العالم النامية أمام تحدّي ارتفاع الفوائد وزيادة العجوزات في ميزان المدفوعات وارتفاع كلفة تمويل الديون السياديّة وديون القطاع الخاص المقومة بالعملات الأجنبيّة. أما الدول الأكثر تضررًا بهذه التطورات، فستكون تلك التي تعاني أساسًا من أزمات نقديّة وماليّة، تجعلها أكثر انكشافًا أمام هذا النوع من المخاطر الخارجيّة، كحالة لبنان بالتحديد.