لا يطمئن وزير الصحة العامة فراس أبيض اللبنانيين على صحتهم، وإن حافظ على بعض التفاؤل. الدواء مقطوع، وما يمكن الوزير فعله شرح أسباب هذا الانقطاع. الفوضى في الاستشفاء ستبقى مستمرة، وما يمكن الوزير فعله محاسبة المخالفين على قدر الاستطاعة. برأيه لا إمكانية لحلول نهائية بلا تمويلٍ… من مكانٍ ما. أين التفاؤل إذاً؟ هو في التعويل على الصناعة الوطنية التي يتوقع أبيض أن تسدّ 40% من حاجة السوق من الأدوية التي قد تنتجها
ما الذي يختلف بين تجربتك في إدارة مستشفى رفيق الحريري الجامعي وبين تولّيك وزارة الصحة؟
تكاد التجربة تكون متشابهة، لأن المصاعب نفسها في المكانين. الفرق في حجم التأثير. هناك كنت مسؤولاً عن مؤسسة، أما هنا، فأنا مسؤول عن بلد. عندما وصلت إلى المستشفى الحكومي كان يعاني وقد خرجت منه إلى الوزارة وأنا أعتبر أنني قدّمت خدمة فيه وأوصلته إلى مكان يحسب له الناس حساباً، وهذا ما أحاول أن أتوصّل إليه في وزارة الصحة العامة. هل استطعت أن تحقق شيئاً مما تطمح إليه بعد تسعة أشهر تقريباً من توليك مسؤولية وزارة الصحة؟
عندما وصلت إلى وزارة الصحة العامة، كنت أعرف مسبقاً ما الذي ينتظرني ولم يكن لديّ أوهام بل كنت مدركاً أنني لست في زمن إنجازات وإنما في زمن أحاول فيه قدر الإمكان الحدّ من الخسائر. الإنجاز اليوم هو أن أكون قادراً على توفير الدواء للمرضى وأن أتيح لهم الاستشفاء. إذا استطعت تحقيق هذين الهدفين سأعتبر نفسي أنجزت شيئاً، ولكن للأسف لم أستطع أن أفعل ذلك حتى اللحظة. أين تكمن صعوبة ملف الدواء؟
هذا الموضوع هو الأخطر حالياً ويزداد صعوبة مع توقف مصرف لبنان عن الدفع منذ حوالى الشهرين تقريباً، رابطاً الأمر بحصوله على تغطية من الحكومة تجيز له الصرف من الاحتياطي الإلزامي. ونظراً إلى أن المسألة هنا هي مسألة حياةٍ أو موت، قرّرت الحكومة منحه تلك الإجازة وتحمّل المسؤولية، إلا أنه ردّ بالقول بأنه يحتاج إلى عقد استقراض يبيح ذلك، ولذلك كان على الحكومة أخذ رأي هيئة التشريع والاستشارات في الموضوع. خلال هذه الفترة من الأخذ والرد، لم يدخل أي دواء جديد إلى لبنان لأن مصرف لبنان لم يحوّل الأموال اللازمة. ولسوء الحظ، تزامن هذا الأمر مع تصريح نائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، الذي تحدَّث فيه عن إفلاس الدولة ومصرف لبنان، وقد انعكس ذلك على ردّ فعل الشركات العالمية. وهو ما دفع بالحكومة إلى حلّ المشكلة عن طريق الدفع من الأموال التي رصدها صندوق النقد الدولي للبنان وصدر قرار بتحويل 13 مليون دولار إلى مصرف لبنان.
وفي موازاة ذلك، اتخذ مصرف لبنان القرار نفسه بالنسبة إلى الموافقات المسبقة، وبسبب هذا الأمر، توقف عن إعطاء الموافقات للشركات منذ شهر شباط الماضي. وهذا يعني أنه منذ شهرين لا شحن ولا دواء، وما نصرفه اليوم من أدوية هو ما كنا قد طلبناه في الشهر الأول من السنة الجارية والشهر الأخير من السنة الماضية. وهو ما ينعكس في النقص الكبير في الأدوية اليوم والذي لا يمكن سدّه بسهولة.
ما الحلّ لهذا الموضوع، هل تبقى صحة المواطن مرهونة لما يقرّره مصرف لبنان؟
ناقشنا طروحات عدة وقد خرجنا بأحد الحلول في مجلس الوزراء وهو أن تعطي الحكومة الموافقات المسبقة، فتكون هي الحلقة ما بين وزارة الصحة العامة ووزارة المال والحكومة، على أن تُصرف المبالغ من القرض المعطى للبنان من صندوق النقد الدولي تحت عنوان تعزيز النظام الصحي ومواجهة فيروس كورونا. وهذا يعني عملياً الخروج من الحلقة الموصولة إلى مصرف لبنان، ما قد يسمح لنا بالتسريع في إنجاز الموافقات بحيث ينعكس هذا الأمر تالياً على دورة الاستيراد. ما بقي اليوم هو التوافق مع الشركات المستوردة للدواء وإعادة ترتيب آلية الاستيراد، باعتقادي ليس المهم الخروج من مصرف لبنان بقدر تعاون الشركات المستوردة مع الوزارة.
كما أننا نعمل على إمكانية إخراج لوائح كل 3 أشهر بدلاً من اللوائح الشهرية، ومن المفترض أن تكون هذه اللوائح حاسمة بحيث يصبح المستورد على علم بما سيستورده.
هل سيلحق هذا التعديلَ تعديلٌ آخر في قيمة المبلغ المرصود للدواء؟
اليوم، نحن ملزمون بالرقم نفسه، 35 مليون دولار أميركي، ومنها المبلغ المرصود للأدوية بحدود 25 مليون دولار. هذا المبلغ غير كافٍ لشراء كل ما نحتاج إليه من أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، والأمراض المزمنة التي لا تزال مدعومة. ولذلك، فإن السؤال الملح: هل سنبقى نستعمل تلك الـ35 بالطريقة نفسها؟ أي هل سنستمر باستيراد الأدوية الغالية الثمن التي كنا نستوردها؟ الجواب الحاسم هو لا، والتوجه اليوم هو للتعديل في آلية الاستيراد بما ينعكس كفاية في المبلغ المرصود، ويكون مثلاً بالعمل على إمكانية استيراد أدوية بأسعار أفضل وبإدخال الجينيريك أكثر، وعلى أساس هذه التعديلات، نضع الأولويات ونقول للمستوردين هذا ما عليكم أن تستوردوه. على سبيل المثال، هناك مبلغ مرصود لحليب الأطفال بمليون دولار أميركي، ولدينا 5 شركات تستورد أنواعاً مختلفة من الحليب، المؤسف هنا أن كلّ شركة تتقدم بلائحة بمليون دولار أميركي! وكذلك الحال بالنسبة إلى الأدوية، فعلى الرغم من أن المبلغ المرصود للدواء هو 25 مليون دولار أميركي، يتقدم هؤلاء بفواتير تُراوح قيمتها ما بين 80 إلى 90 مليون دولار أميركي. المطلوب هو المفاضلة، وكنا قد بدأنا هذا الأمر في ما يخص أدوية الأمراض المزمنة، مع تخفيف الدعم عنها وأخيراً في رفع الدعم عن الأدوية التي لها بدائل محلية. أما في ما يتعلق بأدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، فهناك اجتماعات مكثفة مع الجمعيات الطبية والعلمية المعنية لدرس الخيارات المتاحة، كما إعادة النظر في البروتوكولات العلاجية. فعلى سبيل المثال، إن كان هناك دواء يوجد منه أربعة أنواع وهي مدعومة جميعها، فالخيار اليوم هو الاستقرار على نوعين مثلاً من الأرخص بينها إن كانت كلها بالفعّالية نفسها. ألا توجد بدائل تساعد على تغيير السياسات الصحية القائمة؟
ما هو ثابت أن الأزمة اليوم تفترض إعادة النظر في السياسات الصحية التي كانت متّبعة. في علاجات الأمراض السرطانية مثلاً، واجهنا أخيراً انقطاع أدوية شائعة كالمورفين. كان ثمة سببان للانقطاع، أولهما ثمنها الزهيد، بحيث يعتبر المستوردون أن استيراد مثل هذه الأدوية لم يعد مجدياً بسبب كلفة شحنه، وثانيهما أن هؤلاء أنفسهم لا يغلّبون المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة. لذا كان لا بد من مراجعة الكثير من السياسات في الوزارة، ومنها مثلاً السياسة المتعلقة بإعادة الاعتبار للصناعة المحلية. وكان السؤال الأساسي: لِم عليّ الاستمرار في سياسة دعم أدوية توجد منها بدائل محلية؟ وكان القرار برفع الدعم عن الأدوية المستوردة التي لها بدائل محلية وتحويلها إلى الأدوية المنتجة محلياً، وهي في معظمها أدوية أمراض مزمنة. ولا بد من الإشارة إلى أن المصانع المحلية لديها القدرة للعمل بوتيرة أكبر وتغطية ما لا يقلّ عن 40 إلى 50% من حاجة السوق من الأدوية التي تنتجها والتي تبلغ بحدود 500 صنف من الأدوية (بحدود 1200 دواء إذا ما احتسبنا كل العيارات) والتي يمكن أن تخفّف الكثير من الأكلاف في الفاتورة، إذ يمكن أن تشمل غالبية الأمراض المزمنة التي يعاني منها المرضى (السكري، الضغط، القلب…).
يبقى الشق المتعلق بالأدوية التي لا بدائل لها والتي لا يزال الدعم قائماً عليها. فهذه الأخيرة تُقسم إلى قسمين، الأدوية التي لم ينتج منها دواء مشابه والأدوية التي لها بدائل (first generic) وإنما لم تستوردها الشركات لأن تسجيلها يحتاج إلى وقت طويل. من هنا، قلنا لهم بأننا مستعدون أن نفتح “خطاً عسكرياً” لمن يجلب هذه الأدوية من خلال تسهيل الإجراءات وتسريع التسجيل المبدئي لها. وأكثر من ذلك قلنا إن من يجلب دواء جينيريك بمواصفات الدواء الأصلي نفسه وبسعر أفضل، فنحن مستعدون لشرائه منه والتوقف عن شراء الأساسي.
كيف سيتم احتساب الدعم في الصناعة المحلية؟
عملياً، نحن سندعم المواد الأولية للصناعة المحلية، وقد استثنينا من هذا الدعم التعليب (الباكيجينغ)، ومن جهة أجرى رفع الدعم عن الأدوية المستوردة المنافسة لها. وعليه، في السابق، كنا ندعم هذه الصناعة بمليون إلى مليوني دولار أميركي، فقد رفعنا هذا الدعم إلى 5 ملايين دولار، ومن المفترض أن تعطيني هذه الصناعة مقابل هذا الدعم أدوية “ضرب 5”. أضف إلى أنه في السابق كنا ندفع مبالغ كبيرة مقابل الدعم، وأنا اليوم بذلك أوفر هذه المبالغ لأعطي جزءاً منها للصناعة المحلية، وهو ما بدأ ينعكس على المبالغ التي تم توفيرها من ترشيد الدعم على الأدوية المزمنة والتي دعمنا بها أدوية الأمراض السرطانية، فبدل أن ندعمها بـ16 إلى 17 مليون دولار كما في السابق بتنا ندعمها اليوم بـ18 إلى 19 مليون دولار.
هذا ما يتعلق بالوزارة، أما الشق الآخر من الموضوع فيتعلق بأصحاب المصانع أنفسهم، إذ يفترض بهم أن يقوموا بحملات دعائية للإنتاج المحلي، ويفترض أن يتبع هذا العملَ أيضاً عملٌ آخر مع الصيادلة الذين لا يسوّقون للأدوية المحلية.
ماذا عن دور الوزارة هنا؟
تعمل الوزارة اليوم في اتجاهات عدة، منها الضبط ومكافحة التخزين والمراقبة، وكان هناك عمل على برنامج تتبّع الأدوية، أي ما الذي يدخل. وكيف يُصرف؟ ولمن يُعطى؟ إلا أن الإطلاق تأخر وقد يستغرق بعض الوقت. في المقابل، تقوم الوزارة باتخاذ بعض الإجراءات وهي تحيل ملفاتٍ إلى القضاء حول المخالفات ويُسأل اليوم عنها القضاء، لكن مع ذلك القدرات محدودة، إذ ليس لدينا مثلاً عدد كافٍ من المفتشين الصيادلة لإجراء التفتيش الدوري، أضف إلى أن رواتب هؤلاء لم تعد تكفي للقيام بتلك الجولات. تلجأ الكثير من المستشفيات، لسدّ تكاليفها إلى تدفيع المرضى فروقات عالية، وقد وصل الأمر إلى تدفيعهم إياها بالدولار الأميركي. ما الذي يمكن أن تفعله وزارة الصحة على الأقل مع المستشفيات المتعاقدة معها؟
لا شك أن عدداً من المستشفيات استفاد من الأزمة، وخصوصاً تلك التي تتربّح على حساب المرضى، وقد تبيّن لنا أن هناك مستشفيات تدفّع المرضى 16 ضعفاً، علماً أن الدولار لم يرتفع بهذا القدر لتبرير هذه الفروقات. ولهذا أنا أقول إن تعامل بعض المستشفيات غير أخلاقي وستعمل الوزارة على اتخاذ إجراءات بحقها كفسخ التعاقد معها وحرمانها من مستحقاتها. وحتى المستشفيات التي وُجدت لتخدم أبناء منطقتها تتقاضى بعض الفروقات، ولكن تبقى معقولة ونتفهّم هذا الأمر لناحية أنها ملزمة بتغطية تكاليفها وضمان استمراريتها. أما الجزء الثالث من المستشفيات، فهي التي فسخت عقودها مع الوزارة ولم تعد تستقبل مرضى الوزارة. ولذلك لديّ إصرار على دعم القطاع الصحي الحكومي (القطاع العام) لأن ذلك يقف حائلاً دون استفراد القطاع الخاص، ومعاقبة المستشفيات الخاصة التي تتخطّى المعقول في حساباتها من دون أن يمنع ذلك العمل على مساعدة المستشفيات الأخرى عند الحاجة خصوصاً أننا مقبلون على فترة صعبة في ما يخص وضع بعض المستشفيات التي قد تتجه نحو الدمج أو الإقفال.