أهم ما جاء في خطة التعافي الحكومية والتي استند إليها صندوق النقد لتوقيع اتفاق إطار مع الحكومة اللبنانية في 7 نيسان 2022، هي الفقرة المتعلقة بمصرف لبنان، المادة 18 تحديداً حيث جاء فيها: “نحن بصدد إنهاء العمل بممارسة المصرف المركزي نهج تمويل عجز الموازنة”. ويتابع: “برنامجنا يتفادى أي تمويل آخر مباشر للموازنة من مصرف لبنان بوسائل منها مشتريات الأوراق المالية الحكومية في السوق الأولية واستخدام تسهيلات السحب على المكشوف ودعم مدفوعات الفائدة”.
هذا الكلام بحد ذاته يشكل ثورة على نظام المحاصصة والفساد السائدين، كما ويشكل انقلاباً على سياسات فاشلة إستمرت لأكثر من ثلاثة عقود والتي أرست أسس الإقتصاد الريعي، وقوّضت القدرات الإنتاجية للإقتصاد، وعبّدت طريق الإنهيار. لأن ما جاء في متن الخطة لا سيما المادتين 18 و19 يشكل كلاماً واضحاً، لا بل إلتزاماً من قبل السلطات الرسمية بالكف عن تمويل عجز الخزينة من قبل مصرف لبنان. والإقلاع عن ممارسات ضربت بعرض الحائط قواعد الحوكمة المالية الرشيدة، وانقلبت على أصول السياسات النقدية، وحتى على القوانين اللبنانية التي تنصّ على الإقتصاد الحر وعلى استقلالية المصرف المركزي.
ويقطع هذا النص الواضح الطريق أمام التفسير الخاطئ والإستنسابي للمادة 91 من قانون النقد والتسليف التي شكلت الغطاء على مدى عقود للسلطة بشقيها النقدي والسياسي للإستمرار بنهج الهدر ووضع اليد على مقدرات الدولة وتوزيعها مغانم على الأفرقاء السياسيين، حتى بات الإستثناء القاعدة. لا بل تحتّم هاتان المادتان ضرورة تعديل المادة 91 من الدستور لجهة إقفال الثغرة نهائياً أمام الاستنساب وتكريس مبدأ: “منع مصرف لبنان من تمويل عجز الخزينة” كما جاء في الخطة الحكومية.
ولكن هل يأتي هذا الكلام تحت تأثير الضغط الدولي لا سيما صندوق النقد ولاستمالة رضاه، خاصة أنه بات واضحاً أنه الممر الإلزامي للمساعدات الخارجية والمعبر الوحيد للخروج من الأزمة المالية وتفادي الإرتطام الكبير. من الصعب التصديق أن السلطة السياسية في لحظة وعي مفاجئة قررت التزام قواعد الحكم الرشيد ورفع يدها عن المال العام والمال الخاص خاصة أنها لم تتردد حينما استنفدت مواردها وقدرتها على الإستدانة في مدّ يدها على الإحتياطي الإلزامي أي أموال المودعين، أو ما تبقى منها، لتمويل “نفقاتها”.
وإن كانت المادتان المذكورتان تكرسان معايير الحوكمة الرشيدة في صناعة السياسات المالية والنقدية، الا انهما تتناقضان مع مواد أخرى جاءت في متن الخطة، وتفضح نوايا السلطة بالإمساك بالقرارات النقدية، أكان من خلال تكريس دورها في إدارة تدفقات رأس المال (كابيتال كونترول)، أو من خلال دور أقرته لنفسها في تحديد سعر الصرف (المادتان 15 و 16). لنقلها بوضوح ومن دون مواربة أو لعب على الألفاظ والنصوص، لا دور للحكومة ولا لأي سلطة تنفيذية في تحديد سعر الصرف ولا في صنع السياسات النقدية. كما أن لا دور لمصرف لبنان ولأي مصرف مركزي بتمويل السياسات الإقتصادية للحكومات. مهمة المصرف المركزي الأساسية هي ضبط التضخم، بمعنى آخر حماية القدرة الشرائية للمواطنين، وذلك من خلال الأدوات النقدية التي بين يديه لا سيما أسعار الفائدة والتدخل في سوق القطع حينما يعيد تكوين احتياطيه من العملات الخارجية. وهذا لا يتأمن إلا إذا تأمنت استقلاليته التامة عن السلطة السياسية، ووضعه لفترة تحت وصاية ورقابة صندوق النقد…والأهم من ذلك كله فريق حكم من “الأوادم” لإدارة شؤون البلاد.