نعيش اليوم، أو نحاول أن نتعايش بصعوبة بالغة مع سياسة نقدية جديدة في الاقتصاد اللبناني، والتي تهدف إلى سحب الليرة اللبنانية النقدية من السوق المحلية، وتخفيض الكتلة النقدية للعملة الوطنية من الأسواق، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وتالياً، جرّنا وتحويلنا إلى إقتصاد مدولر بامتياز، وايضاً إقتصاد الكاش، الذي هو أخطر إقتصاد يُمكن أن يحصل في أي بلد في العالم، باعتبار أنّ إقتصاد الكاش يُحفّز التهريب، وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ويُنشّط الإقتصاد الأسود على حساب الإقتصاد الأبيض.
فما نشهده هو استراتيجية واضحة لسحب العملة الورقية بالليرة اللبنانية من الأُسر والشركات والإقتصاد، بطريقة فادحة وواضحة: ففاتورة السوبرماركت تُدفع (50% كاش/ 50% بطاقة سحب)، وقريباً ستُصبح 100% كاش. أما الدواء والإستشفاء والفاتورة الصحية، فأيضاً تُدفع بالعملة الورقية. أما المازوت والوقود فتُدفع أيضاً بالكاش… فلقد تحوّلنا وأُجبرنا على دفع كل السلع الضرورية والمعيشية بالعملة الوطنية المفقودة من السوق.
من جهة أُخرى، إنّ شركات استيراد الوقود محكومة بتمويل إعتماداتها 100% (عوضاً عن 85% سابقاً) بالعملة الخضراء، وهذا يعني أنّها تتجّه يومياً الى السوق السوداء، لبيع ما يحملون بالليرة اللبنانية، وشراء الدولار بأسعار خيالية. فبعد انهيار القطاع المصرفي نشهد انهيار العمليات المصرفية بطريقة خطرة جداً.
من الناحية الماكروإقتصادية، نذكّر أنّ الناتج المحلي كان قبل الأزمة يُوازي 55 مليار دولار تقريباً، أما اليوم وبحسب أرقام البنك الدولي، فإنّه يُراوح بين 20 و25 مليار دولار سنوياً. هذا يعني أننا بحاجة ماسة إلى 20 ملياراً من «الفريش كاش» سنوياً لتمويل ما تبقّى من الإقتصاد المغترب. فإذا إفترضنا وتفاءلنا، أننا لا نزال نستقطب 10 مليارات دولار سنوياً من تحويلات المغتربين أو العمليات التجارية والتصدير والاستيراد، فهناك فجوة بأكثر من 10 مليارات دولار يجب تغطيتها وتمويلها لتأمين الحدّ الأدنى من الطلب على الإقتصاد والمتطلبات المعيشية.
فإذا إتُبعت سياسة سحب الليرة اللبنانية الورقية من السوق، وهناك أكثر من 10 مليارات عجز، فكيف يُمكن تمويل هذا العجز الذي يُوازي 10 مليارات دولار، لتلبية المتطلبات والإحتياجات الضرورية اليومية.
لقد تفاءلنا بحذر عند توقيع الإتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، الذي لن يُموّل عجزاً، لكن مشاريع بمبلغ لا يتجاوز الـ3 مليارات دولار عبر السنوات الأربع المقبلة، وذلك مشروط بالتوقيع الأخير، ولا سيما تنفيذ الإصلاحات التي ليس لنا ثقة بإنجازها.
البعض سيقول، إنّ هذه السياسة النقدية ستُجبر بعض اللبنانيين على بيع ما استطاعه من المبالغ المخبّأة في البيوت، لكن هذا لا يكفي، وهذه جريمة مبطّنة للسحب من اللبنانيين ما استطاعوا تخبئته ليومهم الأسود الذي يشتدُّ سواداً يوماً بعد يوم. فهذه السياسة النقدية الجديدة تُحفّز السوق السوداء، وتخلق أسعار صرف جديدة، وبالأخص تهدف إلى «هيركات» HaiCut جديد، لكن هذه المرّة ليس فقط على الودائع بالعملات الأجنبية المحجوزة بالمصارف، لكن على الودائع بالليرة اللبنانية. وقد وصل سعر صرف الشيك اللبناني إلى 30% و40% لاستحصال بعض العملات الورقية الوطنية.
فبعد إفلاس البلاد، وتهديم الإقتصاد، وضرب كل القطاعات الإنتاجية، وصرف وهدر أموال المودعين بالعملات الصعبة، ها هم يحرقون حتى الودائع بالعملة الوطنية، بإفلاس تام ومنهج مبرمج، لإفقار الشعب، وجرّه إلى التسوّل لتأمين أقلّ حاجاته الإنسانية.