منذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، يستجد الحديث بشكل متكرر عن الكابيتال كونترول في لبنان، وإلى الآن لم يُحسم الجدل حول أي من مشاريع القوانين التي قدمت إلى المجلس النيابي، علماً أنها أحد أبرز مطالب صندوق النقد الدولي، ضمن خطة التعافي الاقتصادي.
وفي الأيام الماضية، كان لافتاً سرعة إقرار الحكومة اللبنانية مشروع قانون جديد لـ”الكابيتال كونترول”، على الرغم من إسقاط المشروع في اللجان النيابية المشتركة واعتراض سبعة وزراء عليه. وكأن الحكومة أرادت بذلك رمي كرة النار إلى ملعب السلطة التشريعية، بهدف إثبات جديتها إلى وفد صندوق النقد الدولي، وتحقيق “إنجاز” معنوي أمام الرأي العام قبل أسابيع من الانتخابات التشريعية.
ووفق مصدر مقرب من حاكم مصرف لبنان، فإن “البروباغندا” الإعلامية للفريق الحاكم لم تتوقف عند الاتفاق المبدئي الموقع مع صندوق النقد الدولي فقط، إذ إن “الاستعراض القضائي المستمر ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا، يهدف إلى رمي كرة الفساد التي تتحملها الطبقة السياسية على الحاكم، ولتبرئ نفسها أمام الرأي العام”، منتقداً تلك الإجراءات القضائية التي اعتبرها كيدية وسياسية بامتياز.
ووجهت اتهامات في 25 مارس (آذار) للحاكم رياض سلامة، بالإثراء غير المشروع، وهو ينفي هذه الاتهامات ويرفض المثول أمام القضاء اللبناني، لكنه عبر عن استعداده للقاء ممثلي الادعاء السويسريين وجهاً لوجه والرد على أسئلتهم بشأن تحقيقهم في غسل الأموال.
التسوية الكبرى
وكانت وكالة “رويترز” نقلت عن مصدر قضائي، أن “قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان نقولا منصور، أصدر قراراً بالحجز على كل أملاك رجا سلامة (شقيق الحاكم)، وأَرسل المذكرة بواسطة النيابة العامة الاستئنافية إلى وزارة المالية، لوضع الإشارة على ممتلكاته كافة”. علماً أن سلامة أوقف في 17 مارس الماضي، واتهم بالتواطؤ في قضية إثراء غير مشروع، في حين ينفي محاميه جميع التهم الموجهة إليه.
في المقابل، تتهم مصادر معارضة للحاكم المركزي، ستة مصارف بعدم التعاون في كشف حسابات رجا سلامة، مشيرة إلى أن “شبكة سلامة” تخطت لبنان لتصل إلى دول أوروبية، كاشفة عن تحقيقات تجري في لبنان وأوروبا حول اختلاس أموال عامة تتجاوز قيمتها الأصلية 330 مليون دولار، وفي قيامها بعمليات تبييض لهذه الأموال عبر شبكة شركات عقارية في عدد من الدول الغربية.
تزامن الإجراءات القضائية ضد سلامة مع توقيع الحكومة اللبنانية اتفاقاً مبدئياً مع صندوق النقد الدولي وإقرار مشروع “الكابيتال كونترول”، دفع بعض الأوساط إلى اعتبار ما يجري محاولة لابتزاز سلامة بهدف القبول بالتسوية المالية المطروحة أو إقالته وتحميله مسؤولية الانهيار الاقتصادي وبالتالي محاسبته أمام القضاء.
“منازلة” جديدة
وتبدو الأيام المقبلة حاسمة في نزاع جديد بين القضاء والمصارف، لا سيما أن المعلومات تؤكد أن النائب العام التمييزي غسان عويدات دخل على خط النزاع، مطالباً المصارف الستة برفع السرية المصرفية وتسليم داتا سلامة بشكل عاجل. ومن المؤشرات على حماوة المشهد المقبل وتيرة الارتفاع المتصاعد لسعر صرف الدولار، الذي سجل ارتفاعاً بنسبة 20 في المئة خلال أسبوع واحد.
وتتخوف بعض الأوساط من الانعكاسات السلبية للمشهد المحتدم على الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في 15 مايو (أيار) المقبل، إذ إن الأزمة الاقتصادية تجعل من الشارع المحتقن قاب قوسين من الانفجار.
مجزرة الودائع
وفي وقت سارعت الحكومة لإقرار مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، لم تقدم حتى الساعة بعد خطة التعافي التي تتسرب منها يومياً بنود غامضة، جعلت الشارع يغلي على وقع الذعر الشعبي من ضياع المليارات من ودائع اللبنانيين، وذلك في “مجزرة مالية غير مسبوقة في أي بلد في العالم”، بحسب وصف الشارع اللبناني. وإذا كانت خطة التعافي تسير بشكلٍ موازٍ لقانون “الكابيتال كونترول” الذي هو جزءٌ منها، فإن ما لحظته من حذف للخسائر المالية التي تتجاوز الـ60 مليار دولار من أموال اللبنانيين في المصارف، كفيلٌ بتفجير الشارع والتهديد بإطاحة كل المعادلات السياسية والمالية والاقتصادية.
وتنفيساً للاحتقان الشعبي الذي برز عقب تسرب بعض بنود خطة التعافي الاقتصادي، أوضح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن الدمج بين “الكابيتال كونترول” وضمان الودائع أمر خاطئ، إذ إن “الكابيتال كونترول لا يتحدث عن حجم الودائع ولا عن ضمانها، وكان يفترض أن يقر هذا القانون في اليوم التالي لبدء الأزمة المالية في لبنان، ولكن التأخير في البت به مستمر، وإذا كنا سنقدم خطة للتعافي الاقتصادي ونقول للناس إننا سنعيد إليهم أموالهم، فمن المفترض اتخاذ إجراء لفترة معينة لكي تبقى هذه الأموال في لبنان، ومراقبة التحويلات إلى الخارج أمر أساسي في هذا الموضوع”.
ورأى أن “المعارضة التي نسمعها في هذا الملف أهدافها شعبوية قبل الانتخابات، ولكنها ستتسبب في المزيد من المشكلات”. وقال “من الأمور التي يطلبها صندوق النقد الدولي إقرار الموازنة العامة، وقد أرسلناها إلى مجلس النواب، وإقرار قانون الكابيتال كونترول وموضوع السرية المصرفية إضافة إلى موضوع إعادة هيكلة المصارف، والملف الأخير لا يزال لدينا وقت لإنجازه ومن ضمن بنوده الموضوع المالي الأساسي. لا يمكن وضع الأمور على سكة التعافي من دون إقرار هذه الملفات الأربعة إلى مجلس النواب بشفافية مطلقة”.
عنف ضد المودعين
وفي السياق، يقول الخبير الاقتصادي روي بدارو، إنه ليس ضد إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، إنما لما يتضمنه من بنود استفزازية مثل المادة 12 من اقتراح القانون، التي تقضي بتجريد المودعين وعموم المواطنين من كل حقوقهم، لأنها تقدم حماية للمصارف من كل الدعاوى التي قد تُقام ضدها، كذلك “قضية تحديد السحب بـ1000 دولار شهرياً من المصارف”. مشدداً على أن قانون “الكابيتال كونترول” كان يجب أن يصدر منذ بداية الأزمة، إنما جرى تحميله أكثر من طاقته وتضمينه بنوداً ملغومة عمداً لتأخير إقراره.
ورأى أن السلطة السياسية تحاول غسل يديها من البنود المتسرعة التي تحمل إجحافاً بحق المودعين، جازماً أن ما يُروج له عن موافقة الصندوق على الصيغة المطروحة هو غير صحيح، مؤكداً أن جميع الحلول تبقى نظرية طالما يغذي لبنان الاقتصادين اللبناني والسوري في ظل الحدود المفتوحة والسائبة.
نظام شيوعي
اما الخبير المصرفي نسيب غبريل، فاعتبر أن “السبعين مليار دولار التي تشكل الفجوة المالية هي ديون على الدولة، وليست استثمارات خاسرة في البورصة كي تُحذف وتُشطب”، وبالتالي فإن مسؤولية الدولة اللبنانية تقتضي أن تلتزم بتسديد ديونها والتزاماتها، وقال “الدولة تقر بهذه الديون ولكنها تريد أن تقتل صاحب الأموال الذي اقترضت منه”.
وكشف عن أن مشروع التعافي الاقتصادي الذي جرى توزيعه على مجلس الوزراء، نص على شطب 60 مليار دولار من ميزانية مصرف لبنان مقابل حذف 60 مليار دولار من الودائع المصرفية، سائلاً إذا ما تحول لبنان من بلد ليبرالي إلى بلد شيوعي؟
ولفت إلى أن “قانون الكابيتال كونترول منفصل عن موضوع تحديد مصير الودائع، وهناك لغط وخلط في هذا الأمر، كما أن الفريق المفاوض مع صندوق النقد لم يقدم الخطة للوزراء الذين سيقرونها، فيما المجلس النيابي سيعمل فقط على إقرار التشريعات التي تتضمنها هذه الخطة ولكن ليست الخطة بحد ذاتها، التي تبقى اتفاقاً بين الحكومة والصندوق. وبالتالي فإن “الكابيتال كونترول” هو جزء من الخطة، التي ستُعرض على كل المعنيين ومجلس النواب لإبداء الرأي، ولكن ليس لإقرارها لأنها ليست قانوناً”.
25 عاماً!
بدوره يشير عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي عدنان رمال، إلى أن الشروط الموضوعة مجحفة جداً ومدمرة للاقتصاد قبل المودعين، متوقفاً عند بند اعتبره خطيراً جداً، وهو منع المواطن والقطاعات الأساسية من الحصول على دولارات من المصارف، كذلك منع المواطنين من شراء الدولار بالشكل القانوني، ما من شأنه أن يخلق سوقاً سوداء للدولار بأسعار متباعدة جداً عن سعر الدولار الرسمي الذي سيُعتمد.
وانتقد اعتماد “الكابيتال كونترول” لمدة ثلاث سنوات، موضحاً أنه في حال كان حجم الودائع 100 مليار دولار والمتبقي منها عشرة مليارات فقط، إذا أضفنا إليها نحو خمسة مليارات للمصارف عندما ستعيد تكوين رأسمالها، ما يعني أن الفجوة اليوم 85 مليار دولار، علماً أن الحكومة تعترف أن الفجوة هي 73 ملياراً. وبناءً عليه، إذا بدأت الحكومة العمل ضمن مسار متصاعد ومستقر مرفق بنمو خمسة في المئة سنوياً وبشكل دائم، وإذا طبقت الإصلاحات، هي بحاجة أقله إلى 25 عاماً لإعادة تكوين