كان من المفترض أن يؤدّي استمرار التدهور في سعر صرف الليرة خلال العام 2021 إلى تقليص العجز التجاري السنوي، والذي يمثّل الفارق بين ما يستورده لبنان من خدمات وسلع، وما يصدّره إلى الخارج. فارتفاع سعر الصرف الدولار مقابل الليرة،
كان يجب أن يؤدّي إلى غلاء السلع المستوردة عند تسعيرها بالليرة، ما يعني تقليص الطلب عليها محليًّا، في مقابل انخفاض السلع المصدّرة عند تسعيرها بالدولار بعد التصدير، ما يعني زيادة الطلب عليها في الخارج. وبنتيجة العاملين معًا، كان من المتوقّع أن تنخفض قيمة السلع المستوردة مقابل ارتفاع قيمة السلع المصدّرة، ما يُترجم بتقليص العجز التجاري.
مع الإشارة إلى أن هذا العجز يمكن أن يلخّص حاجة البلاد إلى العملة الصعبة، لتمويل كلفة عمليّات الاستيراد بالعملة الصعبة، والتي يفوق حجمها واردات لبنان من العملات الأجنبيّة نتيجة عمليّات التصدير.
لكن من الناحية العمليّة حصل العكس تمامًا: فحسب أرقام الجمارك اللبنانيّة التي صدرت مؤخّرًا، تبيّن أن العجز التجاري ارتفع في العام 2021 إلى حدود 9.18 مليار دولار، ما يمثّل القيمة التي احتاجتها البلاد عام 2021 لتمويل الفارق بين صادراتها ووارداتها. مع العلم أن العجز التجاري المسجّل خلال العام الماضي فاق بنحو 18.4% قيمة العجز المسجّل في العام السابق، أي 2020، والذي لم يتجاوز حدود 7.75 مليار دولار. باختصار، سار مؤشّر العجز التجاري عكس المتوقّع في دولة تعاني من تدهور سعر صرف عملتها المحليّة، وهو ما حصل نتيجة تطوّرات عديدة محليّة ودوليّة.
الصادرات ارتفعت.. وكذلك الواردات
الدخول في أرقام الواردات والصادرات خلال العام الماضي يكشف أسباب سير مؤشّر العجز التجاري عكس قوانين الاقتصاد التي تحكم أزمة كالأزمة الماليّة اللبنانيّة. فكما هو متوقّع بالفعل، ارتفع حجم الصادرات عام 2021 بنحو 30.83%، مقارنة بالعام السابق، وهو ما طابق القاعدة التي تقول أن البلدان التي تشهد انهيارات في سعر الصرف قادرة على زيادة صادراتها، بالاستفادة من انخفاض قيمة عملتها المحليّة. ونتيجة هذا الارتفاع، بلغ حجم الصادرات العام الماضي حدود 4.65 مليار دولار، ما مثّل تطوّراً لافتاً بالنسبة للقطاعات الإنتاجيّة اللبنانيّة.
لكن خرق القاعدة الاقتصاديّة حصل في ما يخص قيمة الواردات، والتي ارتفعت على نحو غير متوقّع بنسبة 22.33%، لتتجاوز قيمتها بالعام 2021 حدود 13.83 مليار دولار. وفي خلاصة العاملين معًا، الارتفاع في قيمة الصادرات، والارتفاع في قيمة الواردات، ارتفع العجز التجاري ليلامس حدود 9.18 مليار دولار في العام 2021. وهذا المستوى من العجز، وإن فاق العجز التجاري المسجّل خلال العام 2020 (7.75 مليار دولار فقط)، لكنّه ظلّ أقل بكثير من مستويات العجز التجاري المسجّلة خلال سنوات ما قبل الأزمة، والتي تخطت قيمتها 17.03 مليار دولار عام 2018، و15.5 مليار دولار عام 2019. بمعنى آخر، ظلّت بصمات الأزمة ماثلة للعيان في أرقام العجز التجاري، وإن ارتفع هذا العجز بنسبة ملحوظة خلال العام الماضي.
تحولات دوليّة ومحليّة
ارتفاع العجز في الميزان التجاري حصل إذًا نتيجة ارتفاع قيمة السلع والخدمات المستوردة. وهذا التطوّر، عكس جملة من التطورات التي حصلت العام الماضي، والتي كان أبرزها عودة أسعار السلع الأساسيّة للارتفاع على المستوى الدولي، وتحديدًا المعادن والقمح والمحروقات. فبعد دخول الاقتصادات العالميّة مرحلة التعافي المالي، ومع انتهاء موجات الإقفال التي تسبب بها وباء كورونا، عادت أسعار هذه السلع للارتفاع على المستوى العالمي من جديد، ما عنى ارتفاع كلفة استيرادها بالنسبة للبنان. وهذه السلع التي لا يمكن الاستغناء عنها، وخصوصًا المحروقات والمواد الغذائيّة، غالبًا ما تملك هامشاً أقل من المرونة لجهة الطلب عليها، أي أن الطلب عليها لا ينخفض بنسبة الارتفاع نفسها في أسعارها، نظرًا لحاجة المستهلك الماسّة لها.
على المستوى المحلّي، كان هناك تطورات دفعت بالاتجاه نفسه. فبعد صدمة انهيار سعر الصرف السريع خلال العام 2020، وارتفاع الأسعار السريع خلال ذلك العام، عادت البلاد لتتأقلم مع فكرة الانهيارات المتتالية في سعر الصرف، ودولرة أسعار السلع المستوردة من الخارج. وهكذا، وبالنسبة إلى شريحة معينة –وإن محدودة- من الأسر التي استطاعت مواءمة أجورها ومداخليها مع سعر الصرف الجديد، تم تخطّي صدمة معدلات التضخّم المفاجئة، وعاد الطلب على السلع المستوردة من الخارج للارتفاع تدريجيًّا. وفي الوقت نفسه، من المعلوم أن معدلات الطلب على السلع بمختلف أشكالها عادت للارتفاع خلال العام 2021، مقارنة بالعام 2020، كون البلاد شهدت في العام السابق موجات إقفال صارمة في بدايات تفشّي وباء كورونا.
استقرار سعر الصرف ممكن، ولكن..
على هذا الأساس، يمكن الاستنتاج أن ما يحتاجه لبنان من عملة صعبة سنويًّا لتمويل كلفة الاستيراد من الخارج يقارب التسعة مليارات دولار، وهو ما يقارب الأموال الواردة من المغتربين في الخارج، والتي تتراوح في العادة بين 7 و8 مليار دولار سنويًّا. مع العلم أن الفارق بين القيمتين يمكن ردمه بزيادة محدودة في الصادرات، مقابل ضبط معيّن للواردات بسياسة جمركيّة مدروسة. وبذلك، يمكن الاستنتاج أن البلاد تملك، حسب تركيبة ميزان المدفوعات –الفارق بين الأموال الواردة والخارجة من لبنان- مقومات تحقيق استقرار نسبي في سعر الصرف على المدى المتوسّط. فما تعكسه الأرقام ببساطة هو أن مسألة العجز في الميزان التجاري لا تمثّل وحدها سببًا لاستمرار التدهور في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، من دون أفق زمني واضح.
أزمة سعر الصرف تكمن في مكان آخر إذًا، وتحديدًا في اختلال التوازن في النظام المالي، وكتلة الخسائر المتراكمة فيه، والتي لا تسمح اليوم بامتصاص العملة الصعبة من الأسواق المحليّة أو الدوليّة. ولذلك، إذا أراد لبنان الشروع بإعادة التوازن إلى سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وحسب سياسة نقديّة مدروسة، فبالبداية يجب أن تكون من المعالجات المرتبطة بالخسائر المصرفيّة، قبل الدخول في المعالجات المرتبطة بمنصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، وحجم السيولة المطلوب ضخها بالعملة الصعبة لضبط سعر الصرف.
المصدر : علي نور الدين – المدن