من السذاجة أن تعالج مشكلات اقتصادٍ مشوّه، تعاني عجلته الإنتاجية من “العَرَج”، بأدواتٍ نقدية ومالية تقليدية. فما ينطبق على الحالة المصرية مثلاً، لا يتناسب مطلقاً مع الحالة السورية. لذلك يظهر صانعو القرارات النقدية والمالية في سوريا، بمظهر المنفصل عن الواقع. وهو ما ينطبق على آخر قرارين صدرا، برفع سعر الفائدة، وتخفيض قيمة صرف الليرة السورية.
أما مناسبة الإشارة إلى الحالة المصرية، فيرجع إلى أن السلطات النقدية والمالية داخل نظام الأسد، اتخذت إجراءً يشابه –شكلاً-، ما قامت به الدولة المصرية، قبل شهر، حينما رفعت سعر الفائدة، وخفّضت قيمة الجنيه المصري، في نفس اليوم، بهدف لجم التضخم.
حتى أن التبريرات التي ساقها مصرف سورية المركزي، مرفقةً بالقرارين المشار إليهما، ركزت بصورة أساسية، على هدف الحد من الضغوط التضخمية. لكن إسقاط الحالة المصرية على الحالة السورية، أمر لا ينم عن أية حكمة، لدى صانع القرار الاقتصادي السوري. ناهيك عن أن عملية التنفيذ لم تكن، حتى، مسترشدة بالنموذج المصري، من حيث المضمون.
فالسلطات النقدية السورية رفعت سعر الفائدة على الودائع، من 7 إلى 11%. أي بنسبة 4%. وهي إشارة فاقعة للغاية، إلى حجم الضغوط التضخمية في الحالة السورية. بينما في مصر، رفع المركزي سعر الفائدة، بنسبة 1%، فقط.
وفي سوريا، تم خفض قيمة الليرة –رسمياً- من 2512 إلى 2814 للدولار الواحد، أي بنسبة 12%، فقط. فيما خفّضت السلطات المصرية، قيمة الجنيه المصري، بنسبة 18%.
وكي تمتص السيولة النقدية من الأسواق، طرحت السلطات النقدية المصرية، شهادات إدخار ذات عائد شهري، بنسبة 18%. وهو عائد يفوق معدل التضخم الذي بلغ 12.1%، في آذار/مارس المنصرم. الأمر الذي سمح بتحقيق هدف المركزي المصري، بجذب مليارات الجنيهات المصرية من السيولة المتاحة في الأسواق، لتُودع في بنكي “مصر” و”الأهلي”، خلال أيام فقط من تاريخ طرح شهادات الإيداع المشار إليها.
أما في الحالة السورية، فأفضل سعر فائدة قدمته السلطات النقدية، كان 11%، مقابل معدل تضخم مُفرط، تؤكده مؤشرات أسعار السلع، التي قفزت بنسبٍ تتراوح ما بين 30 إلى 100%، خلال أسابيع فقط. وهنا تبدو إشارة المركزي إلى رغبته في جذب مدخرات السوريين لتتحول إلى ودائع بنكية، مثيرة للسخرية.
دعنا نتصور مواطناً سُوريّاً يودع 100 مليون ليرة سورية، على مدار سنة، مراهناً على فائدة الـ 11%. كم سيخسر من القيمة الحقيقية لنقوده؟ إذا اعتمدنا أرقام العام 2021، فإن الليرة خسرت من قيمتها، خلال سنة، 25%. أي في المحصلة، وبعد طرح مربح الفائدة، سيخسر السوريّ، 14%، من القيمة الحقيقية لأمواله، بالاستناد إلى مؤشر سعر الصرف. والمؤشر الأخير، متفائل جداً، إذا ما قُورن بمؤشر التضخم. ففي عام 2021، زاد متوسط تكلفة المعيشة في سوريا بنسبٍ تتراوح بين أكثر التقديرات تفاؤلاً، عند 40%، وبين أكثرها تشاؤماً، عند 70%. فإذا أخذنا الرقم الأكثر تفاؤلاً -40%-، فهذا يعني أن السوريّ، وبعد طرح مربح الفائدة، سيخسر 29% من القيمة الحقيقية لأمواله، بالاستناد إلى مؤشر التضخم. الحسابات السابقة، تستند إلى أرقام العام 2021، وهي أرقام “رحيمة”، إذا ما قُورنت بتغير تكاليف المعيشة خلال الربع الأول من العام الجاري. فكما أشرنا، ارتفعت أسعار السلع بما يتراوح ما بين 30 إلى 100%.
باختصار، فإن الإيداع طويل الأجل، في البنوك السورية، هو دعوة مؤكّدة للخسارة. وهنا، يبدو المركزي منفصلاً تماماً عن واقع السوريين، حينما يستغرب، وفق بيانه المنشور يوم الأربعاء، وجود تركُّز للودائع بالحسابات الجارية، مما دفعه لرفع الفائدة بهدف جذب ودائع طويلة الأجل. وكأن مسؤولي المركزي لا يعلمون أن سياساته القائمة على حبس السيولة، في البنوك، على مدار عام، ووضع قيود على السحب، عبر تحديد سقوف للنقدي منه، جعلت السوريّ يفقد ثقته بالقطاع البنكي. فحينما يودع أمواله في البنك، فهو يعلم جيداً، أن هذه الأموال لن تكون متاحة له، وقتما يريد، وبالنسبة التي يريد. لذلك يتجنب السوريون، قدر استطاعتهم، إيداع أموالهم في البنوك. فما بالكم بإيداعات، لآجال طويلة، تفقدهم قيمة أموالهم، لقاء فائدة أقل بكثير من نسبة تغير سعر الصرف السنوي، أو معدل التضخم السنوي!
أما الصادم أكثر، في بيان المركزي، إشارته إلى رغبته في توجيه القروض المصرفية نحو الأنشطة الإنتاجية. وهنا، لا نعرف من أي كتاب نظري، يقرأ صانع القرار في المركزي. فكيف يراهن على زيادة النشاط الاقتصادي، وتعزيزه، عبر الاقتراض، من خلال رفع سعر الفائدة!
أما الهدف “الأسمى” للمركزي، وهو الحد من الضغوط التضخمية، فهو غير متحقق، أيضاً. فحينما ترفع سعر الفائدة، فإن النشاطات الإنتاجية المعتمدة على الاقتراض، سترفع أسعار منتجاتها، كي تعوّض تكاليف الفائدة الجديدة.. أي أن أسعار المنتجات سترتفع في السوق السورية، بالمحصلة.
من بين جميع التبريرات غير المقعنة التي ساقها المركزي مرفقة بقرار رفع الفائدة، يبدو أن امتصاص المزيد من السيولة في الأسواق، بهدف لجم المضاربة على العملات، وبالتالي، لجم تدهور سعر صرف الليرة السورية، هو الهدف الحقيقي. وهو الهدف الذي كان وما يزال، المحور الرئيس الذي تُتخذ من أجله كل قرارات السلطات النقدية والمالية في سوريا. مهما كانت نتائج ذلك، سلبية على الاقتصاد، سواء كانت مزيداً من الانكماش، أو مزيداً من التضخم.. المهم، أن يبقى سعر الصرف، مستقراً. فيُقال، إن المركزي “نجح”.
لكن هل سيستجيب السوريون لرغبة المركزي بزيادة ودائعهم البنكية طويلة الأجل؟ من المستبعد ذلك للغاية، كما سبق وأوضحنا، نظراً لحسابات الخسارة الناجمة عن معدل التضخم المُفرط في البلاد. وهكذا، فإن النتيجة الوحيدة لقرار السلطات النقدية في سوريا، برفع سعر الفائدة، هو رفع تكاليف الاقتراض على النشاطات الإنتاجية المعتمدة عليه، وهو ما سينعكس على أسعار السلع المُنتجة من تلك النشاطات. أي زيادة في ارتفاع الأسعار.