إن الحرب التي اندلعت في 13 نيسان 1975، كانت حرباً تقاطعت فيها مطامع كثيرة، وطموحات كثيرة. واشتبك فيها أيضاً البعد اللبناني بأبعاد إقليمية ودولية، وهي مناخات لا تزال حاضرة وإن تبدلت القوى التي خاضتها.
لم تنتهِ الحرب. ما انتهى هو عصفها الكبير الذي عرفه لبنان بين عامي 1975 و1977.
يوم الثالث عشر من نيسان/ أبريل 1975، أي اليوم الذي تؤرَخ فيه بداية الحرب اللبنانية، لم يعد اليوم الوحيد الذي نتوخى الهروب منه كمؤسس لمرحلة دموية من تاريخنا. بعده أيام كثيرة تندرج أيضاً كمواضٍ دموية، حتى وإن كُتِب عليه أن يكون زمنياً اليوم الأكثر مأساوية.
وما يُكثِّف الثالث عشر من نيسان كمؤسس للحرب أيضاً، أن معظم الحروب التي تلته هي انبثاق من وقائعه. ولإن صحَّ أن معظم شخوص تلك الحرب انتهوا أمواتاً، لكن الصحيح أيضاً أن من استأنفوا نسلها لاحقاً هم غالباً من أصلابهم البيولوجية حيناً، والعقائدية أحياناً، وهؤلاء راهناً يُخضِعون اللبنانيين، ومن موقعهم في السلطة، لقدر هو على الأرجح ابن شرعي لذلك القدر الذي عاشه اللبناني بعد 13 نيسان 1975، ولكن بأدوات الحاضر.
الموت، الويلات، الفقر، الجوع، هي بالضرورة نتاج الحرب، واللبنانيون في راهنهم هم في قلب تلك المآسي. لكنهم في خضوعهم لكل ذلك، يتبدون ضحايا سِلم متوهم يمكن أن يتحول إلى حرب في أي لحظة، ما دامت مؤشرات استئنافها حاضرة دوماً.
من نافل القول طبعاً، إن الحرب التي اندلعت في 13 نيسان 1975، كانت حرباً تقاطعت فيها مطامع كثيرة، وطموحات كثيرة. واشتبك فيها أيضاً البعد اللبناني بأبعاد إقليمية ودولية، وهي مناخات لا تزال حاضرة وإن تبدلت القوى التي خاضتها.
كان المسيحيون في صلب تلك الحرب التي خاضوا آخر فصولها في 13 تشرين الأول 1990، وكان ميشال عون آخر قادتهم المحاربين. وهزيمة عون أسست لاحقاً لاتفاق الطائف الذي أسس افتراضياً لنهاية تلك الحرب.
النهاية المفترضة أعقبها سلم أفضى إليه الوجود العسكري السوري المتلازم مع وصاية سورية هيمنت على السياسة اللبنانية، وتكفلت طوال 15 عاماَ بإخضاع اللبنانيين لسلم كان أسيراً لتلك الهيمنة التي لم تكد تنتهي عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى دخل اللبنانيون في حروب “صغيرة” كثيرة كما في معارك طرابلس- باب التبانة، وفي صيدا مع حركة أحمد الأسير، وفي السابع من أيار/ مايو 2008، وفي عين الرمانة، أو في “ميني” حروب عشائرية يومية بحكم السلاح المتفلت الذي يُغطي معظم المناطق اللبنانية.
كانت تلك “الحروب” في أحد أسبابها وليدة الغبن السياسي والاجتماعي كما يُشاع. شعور الطائفة السنية بالغبن مثلاً خلَّفه اغتيال الرئيس رفيق الحريري. والغبن هذا شكَّل غالباً عاملاً جذاباً لمستثمري الحروب كما في طرابلس. وحرب عام 1975 أصلاً قامت في شطر من أسبابها على هذا الشعور الذي رفعه اليسار اللبناني في وجه “المارونية السياسية”، وهو أيضاً المدخل الذي باشر من خلاله موسى الصدر تحفيز الشيعة اللبنانيين للانخراط في حركته التي خاضت لاحقاً حروباً كثيرة بأثر هذا الشعور، لتصير راهناً الطائفة الأكثر تأثيراً في السلطة.
لكن رصد أثر تلك الحروب في رفع الغبن أفضى إلى غبن أكثر مأساوية، حيث استحالت الحروب إلى مُكثفة له. فأكثر تلك الحروب تم تسييلها كمكتسبات سياسية لزعماء الحروب في السلطة لا لأجل من قامت الحروب باسمهم، ويمكن التأكد من ذلك بإلقاء نظرة خاطفة على أحوال المغبونين منذ حرب السنتين، ومروراً بكل الحروب التي تلتها.
عام 1991 لم تنته الحرب. والسبات الذي آلت إليه طوال 15 عاماً، فرضته الوصاية السورية بوقائع لم يكن زعماء تلك الحروب يطمحون فيها إلى أكثر من دولة “ميلشياوية” يبدو كل من فيها أنه لم يترك الحرب حتى وهي تمننا بأمانٍ هش هو في أحسن الأحوال حرب صامتة علينا.
منذ عام 1943 إلى راهننا، 3 مذاهب لبنانية تداولت التغلُّب في السلطة، المارونية، ثم السنية، ثم الشيعية. والأخيرتين صنيعة الحرب. وإذا جازفنا باعتبار الأُولَيَين فراديس متخيلة، فلا مجازفة في اعتبار الشيعية طريقاً إلى جهنم.