في سابقة على مرّ تاريخ الانتخابات النيابية في لبنان أعلن حزب الله فوزه سياسياً في الانتخابات قبل إجرائها بنحو 40 يوماً.
ففي تصريح واضح وصريح أعلن أحد أبرز المتحدّثين باسم الحزب الشيخ نبيل قاووق أنّ “أعداء المقاومة أدركوا خطأ تقديراتهم حول متانة تحالفات حزب الله، وعليه فإنّ الحزب يحظى بأوسع تحالفات استراتيجية عابرة للطوائف والمناطق”.
لقد حقّق حزب الله إذاً هدفه السياسي من هذه الانتخابات من خلال تأكيد متانة تحالفاته لا مع حركة أمل الشيعية وحسب، بل ومع قوى سنّيّة ومسيحية ودرزية، فيكون الحزب قد استطاع بذلك إثبات أنّه القوّة السياسيّة الوحيدة القادرة على قيادة حلفائها في هذه الانتخابات، لا من خلال جمعهم بالقدر الممكن والضروري في لوائح مشتركة وحسب، بل أيضاً من خلال مساعدتهم على إيصال بعض مرشّحيهم.
وكان الأمين العام للحزب حسن نصر الله قد أعلن أمام كوادره الانتخابية، قبل 4 أسابيع، في حديث نشرت جزءاً منه جريدة “الأخبار” في 16 آذار الفائت، أنّه يخوض هذه المرّة “معركة حلفائنا”: “علينا أن ننجح كل نوابنا وكل حلفائنا. وحتى لو كان هناك مرشح عليه نقاط هدفنا أن ننجحه”.
عليه فإنّ الحزب الذي أعطاه تحالفه مع التيار الوطني الحرّ غطاءً مسيحياً ضرورياً في أوج الصراع الداخلي عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثمّ بعد تدخّل الحزب في الحرب السورية، هو الآن بصدد توسيع الغطاء السياسي – الطائفي – المناطقي له. إذ سيتمكّن حلفاؤه السُنّة والدروز من توسيع حصّتيهما في البرلمان، وذلك سيجعل الحزب قادراً على التحكّم أكثر بـ”لعبة الميثاقية” التي دفع بها مع حليفه التيار الوطني الحر إلى تأويلات راديكالية.
ad
في السياق ذاته ليست قليلة الدلالة مسارعة الحزب، على لسان قاووق، إلى تأكيد عدم قدرة خصومه الدوليين والإقليميّين من خلال الترهيب والترغيب وفرض العقوبات ،على عزل حلفائه عنه.
فبعدما خلّصه تحالفه مع التيار الوطني الحر في العام 2006 من عزلة داخلية عميقة، يؤكّد الحزب اليوم أنّ الالتفاف حول مشروعه بات أقوى داخل الطوائف، ولا سيّما الطائفتين السنّيّة والدرزيّة، وذلك في لحظة تحوّلات إقليمية ودولية كبرى تسعى حيالها إيران حليفة الحزب إلى تأكيد نفوذها في ساحات المنطقة، وفي مقدَّمها لبنان. ولن يتوانى الحزب عن تصوير الغطاء المتنوّع طائفيّاً الذي سيحظى به على أنّه تأكيد لرحابة مشروعه السياسي ضمن الأجندة الإيرانية في المنطقة.
المفصل: نسب الإقتراع
بيد أنّ هناك نقطة أساسية لا يمكن إغفالها، وهي نسب المقترعين ضمن كلّ طائفة، وتحديداً للوائح الحزب وحلفائه. فأن ينال هؤلاء حصصاً نيابية أكبر داخل كلّ الطوائف فهذا لا يعني أنّهم باتوا يحظون بغطاء شعبي أوسع ضمن هذه الطوائف. إذ إنّ نسب التصويت ستكتسب دلالات سياسية مهمّة في الانتخابات المقبلة، ولا سيّما داخل الطائفة السنّيّة بعدما “انسحب” تيّار المستقبل من المعركة. وستتعيّن، تبعاً لذلك، مراقبة الوقائع السياسية الجديدة ضمن هذه الطوائف لجهة تطوّرات الانقسام داخلها حول مشروع الحزب.
بمعزل عن ذلك كلّه فإنّ فوز حلفاء الحزب هذه المرّة سيُعدّ أكثر من ذي قبل فوزاً صافياً له لأنّه استبق الانتخابات بربطهم به من خلال تدخّله المباشر في تركيب لوائحهم. والأهمّ من خلال وضعه عنواناً سياسياً لمعركته الانتخابية تذوب تحته العناوين الفرعية لجميع حلفائه، وبالأخصّ التيار الوطني الحرّ الذي يخوض الانتخابات بلا عنوان سياسي واضح. ولا سيّما بعدما اضطرّه تراجع شعبيّته إلى الالتصاق أكثر بالحزب والتحالف مع حركة “أمل”. في حين دأب قبل أشهر قليلة على مهاجمة الحركة ورئيسها نبيه برّي بأقذع العبارات، وعلى انتقاد الحزب ومطالبته بتطوير ورقة تفاهمه معه، فإذا به ينسى كلّ ذلك ويخرج بنظرية عجيبة غريبة تقول إنّ تحالفاته هي انتخابية بحت، ولا تُلزمه بأيّ التزام سياسي.
غير أنّ توحيد الحزب لحلفائه لن تقتصر مفاعيله على نتائج الانتخابات، إذ إنّ تبعاته السياسية ستستمرّ بعد 15 أيّار، وستكرّس واقعاً جديداً في تعامل الحزب مع حلفائه بعدما ارتموا أكثر في أحضانه، ولا سيّما التيار الوطني الحرّ. فلن تتوقّف المتغيّرات التي ستفرزها هذه الانتخابات عند قدرة الحزب على تأكيد نفوذه السياسي مقابل تراجع نفوذ خصومه إذا ما أُخذوا بالجملة وحسب، بل ثمّة متغيّر أساسي ستكرّسه هذه الانتخابات يتّصل بعلاقة الحزب بحلفائه لناحية إدارة تناقضاتهم وإظهار انخراطهم جميعاً في مشروعه السياسي. ويمكن تصوّر أنّ الحزب سيعمل على ضمّ حلفائه في جبهة شبيهة بـ”الجبهة الوطنية التقدّمية” التي أنشأها حزب البعث في سوريا وضمّت الأحزاب الحليفة له.
التحكّم بالغالبيّة
ما سلّفه الحزب لحلفائه في هذه الانتخابات سيستردّه منهم في السياسة بعدها. فمن الصعب تصوّر أنّ جبران باسيل سيستطيع التصرّف مع الحزب بعد الانتخابات كما قبلها، وتحديداً لناحية محاولته إظهار أنّ له هامشاً سياسياً يتحرّك فيه بعيداً عن توجّهات الحزب. فالتيار الوطني الحرّ يدخل هذه الانتخابات مهزوماً سياسياً أيّاً تكن النتائج التي سيحقّقها في صناديق الاقتراع. وهي بالتأكيد ستسجّل تراجعاً ملحوظاً عن الدورة الماضية. لكنّ الأهمّ أنّ التيّار الذي كان يبالغ في إظهار شخصيّته السياسيّة المستقلّة اضطرّ إلى إبرام تحالفات انتخابية مناقضة لشعاراته، وظهر أنّه محتاج إلى الحزب أكثر من أيّ وقت مضى، في حين كان يحاول إظهار استقلاليّته عنه.
الأكثر أهمّيّة أنّ الحزب لن يسمح بهوامش سياسيّة واسعة لحلفائه بعد الانتخابات ربطاً بالاستحقاقات الدستورية اللاحقة، سواء تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس للجمهورية، خصوصاً أنّ الحزب يُجري حساباته للمرحلة المقبلة في ضوء التطوّرات الإقليمية والدولية باعتباره جزءاً من الاستراتيجية الإقليمية لإيران.
لذلك فالحزب معنيّ بتثمير انتصاره الانتخابي سياسيّاً من خلال الاستفادة من قدرته على التحكّم بتوجّهات الغالبية النيابية في الاستحقاقات الرئيسية، وليس المقصود الاستحقاقات السياسية وحسب، بل الاقتصادية أيضاً، ولا سيّما توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي على أساس الاتفاق المبدئي الذي توصّل إليه الوفد اللبناني المفاوِض مع بعثة الصندوق، والذي يتضمّن شروطاً إصلاحية محدّدة لم يُظهر الحزب تساهلاً مطلقاً معها طوال الفترة الماضية، إذ لطالما تحدّث عن اتفاق مشروط مع الصندوق، وحتّى عن خيارات بديلة.
انطلاقاً ممّا سلف، سيكون استكمال المفاوضات مع صندوق النقد محطّة مهمّة بعد الانتخابات لا تقلّ أهمّيّة عن تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، إذ ستؤثّر طبيعة الاتّفاق الموقّع مع هذا الصندوق عميقاً في بنية الاقتصاد اللبناني لناحية خريطته الاجتماعية والطائفية – السياسية، وستحدّد وجهة لبنان الاقتصادية بين الشرق والغرب، خصوصاً في حمأة الصراع الدولي المتفاقم بعد الحرب الأوكرانية. يعني كلّ ذلك الكثير للحزب الذي يطمح إلى تعزيز نفوذه الاقتصادي في لبنان ترجمةً لنفوذه الديموغرافي والعسكري – السياسي. وليس قليل الدلالة في هذا السياق تركيز وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته الأخيرة لبيروت على استعداد بلاده للاستثمار في لبنان.
من جهة ثانية، تفتح عودة السفيرين السعودي والكويتي إلى بيروت المشهد اللبناني على أسئلة كثيرة تتجاوز الانتخابات وتتمحور حول مجمل المرحلة المقبلة في لبنان والمنطقة التي تشهد حراكاً دولياً وإقليمياً كبيراً بدءاً من تسارع الخطوات نحو توقيع الاتفاق النووي بين أميركا وإيران وردود الفعل الإقليمية عليه، وليس انتهاءً بالتطوّرات اليمنيّة الأخيرة خلال مؤتمر الرياض للحوار اليمني التي تؤذن بمسارات جديدة في طول المنطقة وعرضها، لن يكون لبنان، في نهاية المطاف، خارجها.
إيلي القصيفي – اساس ميديا