لا يبدو أن ثمّة ما سينهي استنزاف دولارات المصرف المركزي في القريب العاجل، مهما بلغ حجم التراجع في قيمة احتياطات المصرف المتبقية بالعملات الأجنبيّة. فمصرف لبنان بات أسير لعبة التدخّل في السوق من خلال منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، والتي يتم استخدامها اليوم لتمويل استيراد عدد من السلع الحيويّة في السوق، وأهمّها البنزين. وحتّى اللحظة، ما زال حجم الاحتياطات المتوفّرة في مصرف لبنان يعاني من التراجع الذي حصل خلال الأشهر الماضية، نتيجة دخول حاكم مصرف لبنان في لعبة ضخ الدولار. أما حصيلة كل هذه التطوّرات، فلم تكن سوى هبوط سريع وغير مسبوق في احتياطات العملة الأجنبيّة في مصرف لبنان.
احتياطات العملة الصعبة
وفقًا للميزانيّة التي نشرها المصرف المركزي في نهاية شهر آذار، بلغ حجم الدولارات التي بددها مصرف لبنان من احتياطاته خلال شهر آذار وحده ما يقارب 453 مليون دولار، ليقتصر حجم الاحتياطات المتبقية في الميزانية على نحو 11.47 مليار دولار فقط. وبذلك، تصبح نتيجة سياسة ضخ الدولار في السوق، التي اعتمدها مصرف لبنان منذ شهر كانون الأوّل الماضي، حرق ما يقارب 1.75 مليار دولار منذ ذلك الوقت، أي خلال فترة لا تتجاوز الأربعة أشهر.
من ناحية أخرى، يشير هذا الرقم إلى أن حجم السيولة المتبقية لدى مصرف لبنان باتت تقل بنحو 2.5 مليار دولار عن حجم الاحتياطات الإلزاميّة، التي أودعتها المصارف لديه لتكون ضمانة أخيرة للمودعين، حسب تعاميم الحاكم نفسه، والتي لا يفترض أن يتم المساس بها وفق تأكيدات الحاكم في الماضي. مع الإشارة إلى أنّ عمليّة رفع الدعم جرت بحجّة الحفاظ على هذه الاحتياطات بالتحديد، وعدم جواز استعمالها لتمويل استيراد السلع الأساسيّة، فيما يجري اليوم حرق هذه الاحتياطات بالذات في عمليّة ضخ الدولار.
ذهب مصرف لبنان
في مقابل هذا الانخفاض في قيمة الاحتياطات المتبقية في ميزانيّة المصرف المركزي، سجّلت الميزانيّة زيادة في قيمة احتياطي الذهب بنحو 1.16 مليار دولار منذ بداية شهر كانون الأوّل، نتيجة ارتفاع أسعار المعدن الأصفر عالميًّا. وفي نهاية شهر آذار، كانت قد بلغت احتياطات مصرف لبنان من الذهب حدود 17.74 مليار دولار، وهي تحديدًا الاحتياطات التي تقترح خطّة الحكومة الجديدة استخدامها في عمليّات دعم قيمة العملة المحليّة على المدى الطويل. مع العلم أن الزيادة في قيمة احتياطات الذهب نتيجة ارتفاع الأسعار، تنعكس في أرباح دفتريّة في الميزانيّات، وهو ما يتم استخدامه في العادة لإطفاء الخسائر المتراكمة في حسابات مصرف لبنان. وهذه الحقيقة بالتحديد، تنعكس في تحولات أرقام بند “الموجودات الأخرى”، الذي يتم استخدامه في العادة لإخفاء الخسائر السابقة المتراكمة في حسابات مصرف لبنان، عبر تسجيل موجودات وهميّة.
حجم السيولة المتداولة في السوق
أما المسألة المثيرة للاهتمام في الميزانيّات، فهي تراجع حجم السيولة المتداولة في السوق خارج مصرف لبنان بنحو 6,797 مليار ليرة لبنانيّة، خلال الفترة الممتدة بين بداية كانون الأوّل ونهاية آذار، أي خلال الفترة التي قام فيها مصرف لبنان بضخ الدولارات وامتصاص السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، بالإضافة إلى تشديد سقوف السحب بالليرة من المصارف اللبنانيّة. وبذلك، تراجع حجم السيولة المتداولة في السوق بالليرة بنحو 15.6% خلال هذه الفترة بالتحديد. ورغم نجاح هذه الإجراءات في الحد من قدرة الكتلة النقديّة الساخنة في السوق على التسبب بذبذبات سريعة في سعر الصرف، إلا أن تشديد القيود على سحب السيولة بالليرة من المصارف ترك أثره على مستوى قدرة عملاء المصارف على الاستفادة من السيولة الموجودة في حساباتهم، وخصوصًا حسابات توطين الرواتب.
أخيرًا، وحسب أرقام نهاية شهر آذار أيضًا، كان من الواضح بلوغ حجم الخسائر المتراكمة في بند الموجودات الأخرى إلى حدود 61 مليار دولار، وهو الرقم الذي يعكس مجمل خسائر مصرف لبنان من عمليّات تثبيت سعر الصرف ودعم استيراد السلع الأساسيّة. وهذا الرقم الخطير، تتجاوز نسبته 37% من إجمالي قيمة موجودات المصرف المركزي، في حين أن المصرف المركزي يعاني من خسائر أخرى في بنود مختلفة من الميزانيّة. وبذلك، يصبح من الواضح أن الإشارة إلى المصرف المركزي ككيان متعثّر، بحاجة إلى إعادة هيكلة تمامًا كحال المصارف الخاصّة، تستند إلى تضخّم هذه الفجوة التي نشأت في الميزانيّات، نتيجة تآكل الموجودات السائلة قبل حصول الانهيار المالي وبعده.