بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين، فإن شهر رمضان هذه السنة، لا يشبه ما اعتادوا عليه من قبل، فهم يشعرون أنهم مضطرون للتخلي عن بديهيات تقليدية في موائد الإفطار، وأن سوء إدارة الحكومات للأزمات الاقتصادية يفرض عليهم اتباع حمية غذائية إجبارية رغما عنهم.
بدأت مئات آلاف العائلات اللبنانية في الأيام الماضية تلقي معونات نقدية رمزية مقدمة من برنامج يدعمه البنك الدولي الذي يقول إن التضخم الغذائي بلغ نحو 400 بالمائة في بلد يصنف بين أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية في العالم خلال أكثر من قرن، بعدما بدأ الانهيار في لبنان في أواخر عام 2019.
قبل عام بالتمام، أجرت اليونيسف استطلاعا في نيسان 2021، أظهر أن ثلاثا من كل عشر أسر لديها طفل واحد في الأقل أوى إلى فراشه بلا عشاء أو تخطى تناول وجبة واحدة في الأقل من الوجبات الثلاث في بلد ألقت الأزمات فيه بثلاثة أرباع سكان البلاد البالغ عددهم 6 ملايين نسمة، في أتون الفقر، وجعلتهم الأكثر تعاسة وفق تقرير “السعادة السنوي” الذي نشرته شبكة الحلول المستدامة التابعة للأمم المتحدة قبل أسبوعين.
لم تتحسن الظروف المعيشية للبنانيين منذ شهر رمضان الماضي، بحسب ما يؤكد خبراء، لا بل إن أسعار المواد الغذائية الأساسية تضاعفت بسبب سوء الإدارة وجشع التجار وتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، لدرجة أن السيدة سامية بخعازي، التي تتسم عادة بالهدوء وهي تعمل في مطبخ مطعهما الصغير المخصص للوجبات المنزلية في بيروت، بدت حائرة وتعيد تكرار حساباتها وتتمتم باستياء: “بكم سأبيع وجبة الإفطار الرمضاني في ظل هذه الأسعار، ومن سيشتريها ليأكل؟”.
بالنسبة إلى جميل جراب (51 سنة)، فإن الخيبة سبقت حلول شهر رمضان، بعدما تلقى من صاحب مولد اشتراك الكهرباء بلاغا يؤذن ببدء الشهر الجديد الذي تزداد فيه ساعات التغذية حتى وقت السحور، ويخيره بين أمرين: إما أن يزيد الكلفة على استهلاكه الكهربائي في منزله في بيروت، من حوالى 80 دولارا إلى 130 دولارا، أو أنه “سيضطر آسفا” إلى إطفاء المولدات.
يسخر جميل من هذه القرارات المفاجئة مع حلول شهر رمضان، ويقول: “كأننا أمام الخيار بين مرضين، ضغط الدم أو داء السكري، يعني إما الرضوخ والدفع لحضرة صاحب الاشتراك، أو نشتري حلويات الكلاج والمفروكة… لذا قررنا أن نستسلم للضغط، ونبتعد عن السكري.”
يعتبر جميل أن سياسات الحكومات فرضت على اللبنانيين حمية غذائية (ريجيم) إجبارية، وربما أكثر من ذلك.
في هذه الأثناء، تشير سامية في مطبخها الصغير إلى صحن الفتوش وهي مذهولة وتقول: “بخمسين ألف ليرة، من سيأكله؟ سأجعله اختياريا لمن يطلبه ضمن وجبة الإفطار؟”.
ونشرت شركة “الدولية للمعلومات” المتخصصة بالإحصاءات والدراسات، الجمعة دراسة تؤكد تقديرات سامية، إذ كشفت أن كلفة طبق الفتوش لخمسة أشخاص بلغت 4,250 ليرة في العام 2020، وارتفعت الآن إلى 50,530 ليرة أي بارتفاع سنوي نسبته 311 بالمائة، وذلك في ظل زيادة كبيرة في أسعار مكوناته من بندورة (طماطم) وخيار وبصل ونعنع وفجل وزيت زيتون وحامض بالإضافة إلى الخس مثلا الذي ازداد سعره من 3 آلاف ليرة إلى 15 ألف ليرة.
يتفق الخبير الاقتصادي الدكتور فادي غصن مع ظاهرة الحمية الغذائية المفروضة على اللبنانيين عموما، قائلا إنه بالإضافة إلى أزماته الداخلية ومستويات التضخم المرتفعة عالميا، حدث ارتفاع جنوني بأسعار المواد الغذائية، وغابت أصنافها الباهظة كاللحوم عن موائد كثيرين، فعمد اللبناني إلى البحث عن البدائل الرخيصة، حتى إنه لجأ إلى التقنين في مكونات الطبخ أو الطبق، إضافة مكون أرخص ثمنا، مستبدلا المكون الغالي الثمن في صحن السلطة.
وتقليديا، فإن وجبة الإفطار الرمضاني تتألف إلى جانب الفتوش، من شوربة العدس والعصير والتمر ورقاقات العجين، إلى جانب الصحن اليومي الرئيسي، والحلويات الرمضانية.
في شهر رمضان العام الماضي، كانت مثل هذه الوجبة تباع بنحو 35 ألف ليرة، لكن سامية، الحائرة الآن في مطبخها، تشير إلى أنها ستسمح للزبون بحذف مكون أو أكثر من هذه الوجبة المتكاملة بحسب قدرته المالية، أي أنها قد تبيع الطبق الرئيسي لمن يرغب، من دون المكونات الأخرى، أو يختار منها ما هو بمتناول جيبه.
تعدد سامية المكونات الغذائية التي ارتفعت أسعارها وتتساءل قائلة: “حتى لو بعت الوجبة الرمضانية بـ150 ألف ليرة، سأكون خاسرة، وليس لدي القلب القاسي لأبيع بسعر أعلى من ذلك على الناس”.
لهذا، ألغت سامية من أطباقها الأسبوعية العديد من الأصناف بما في ذلك طبق لحم الروستو حيث بلغ سعر الكيلوغرام منه نحو 300 ألف ليرة، ناهيك عن كلفة الخضار المسلوقة والبطاطس إلى جانبها. وتقول بذهول: “حتى العديد من الميسورين يتذمرون أحيانا من أسعار الأطباق. هل تعلم أن دزينة الفلافل أصبحت بـ70 ألف ليرة؟”.
يخشى فادي غصن من تداعيات نظرية “الدولة الفاشلة” التي نعيش في ظلالها وعجزها عن توفير الأمن الغذائي للمواطنين حيث يعيش أكثر من نصفهم فيما دون الحد الأدنى للمعيشة، قائلاً: “للأسف، لم نر أي خطة رسمية استباقية لمعالجة لأي طارئ مستقبلي كارتفاع الأسعار، أو حتى فقدان السلع الأساسية (الزيوت، السكر، القمح، النفط)، وردة الفعل عادة تأتي متأخرة، أو تقتصر على الدراسات. وتأتي العلاجات من القطاع الخاص بأثمان باهظة على كاهل المواطن”.
في محل حلويات العنتبلي الشهير في بيروت، لا يبدو معمر العنتبلي أقل حيرة من سامية وهو يقول بحسرة: “هذه السنة، لا حلويات. لن نبيع القطايف ولا الكلاج. من سيأكلها؟ ربما الملك ريتشارد فقط إذا نهض من قبره”.
أضاف العنتبلي غاضباً: “قنينة عصير الرمان ستباع بـ260 ألف ليرة. ما يحصل لا يوصف أبدا. هذا كفر. إنهم يدفعون الناس إلى السرقة لتأكل”.
الأزمة الأوكرانية ترخي بظلالها على لبنان
إلى ذلك، نشرت صحيفة الأوبزرفر تقريراً بعنوان: “كيف تؤثر الحرب في أوكرانيا على الإمدادات الغذائية في أفريقيا والشرق الأوسط”.
وحمل التقرير توقيع ليتزي ديفيس التي تقول إن أسعار المواد الأساسية مثل الزيت والقمح ترتفع بشكل كبير، بينما يسجل نقص في رفوف السوبر ماركت في لبنان والصومال ومصر.
ويشير التقرير إلى أن لبنان “الغارق بالفعل في أزمة اقتصادية والذي يكافح التضخم قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، ليجد نفسه الآن في صراع مع ارتفاع أسعار القمح وزيت الطهي”.
لذلك، وجد مسلمو لبنان على إفطارهم الأول في شهر رمضان، بحسب التقرير، أن الوجبة “أمامهم تكلف أكثر بكثير مما كانت عليه قبل ستة أسابيع”.
وقال التقرير إن “المخاوف بشأن واردات القمح – أكثر من 60% منها جاءت العام الماضي من أوكرانيا – حادة بشكل خاص لأن احتياطيات لبنان محدودة”.
وأضاف أن “الانفجار الهائل الذي مزق مرفأ بيروت في آب 2020 وقتل أكثر من 200 شخص، أدى أيضا إلى تدمير صوامع الحبوب الرئيسية. نتيجة لذلك، يُعتقد أن البلاد لديها ما يكفي من القمح لتعيش حوالي ستة أسابيع فقط”.
وتحاول الحكومة اللبنانية تأمين واردات جديدة من الهند والولايات المتحدة وكازاخستان، وكل ذلك يستلزم سفر الحبوب لمسافات أطول بكثير على طرق الشحن باهظة الثمن بشكل متزايد.
في غضون ذلك، قال وزير الزراعة عباس الحاج حسن في تصريح مؤخراً إنه “لا أزمة قمح في لبنان اليوم”، بحسب التقرير.
ولفتت ديفيس إلى أن “النقص بدأ بالفعل في الظهور على رفوف السوبر ماركت في لبنان. فبعض المخابز تقنن الخبز، كما أن ارتفاع الأسعار منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا واضح، كما يقول بوجار خوجة، المدير الإقليمي في منظمة كير الدولية للإغاثة”.
وأضافت أن “قلة من شرائح المجتمع أكثر عرضة لهذه التغييرات مثل 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان، يعيش معظمهم في فقر مدقع ويعتمدون على المساعدات الغذائية”.
كذلك، قالت الكاتبة إن “الأشهر القليلة المقبلة في لبنان قد تكون صعبة، كما أن الآمال في الشهر الفضيل منخفضة”.
(سكاي نيوز عربية – BBC – الأوبزرفر)