تغريدة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمس عن زراعة القمح تشي بأن مخزون الطحين وضمان استمرار استيراده بوتيرة منتظمة ليس بخير. دعوته هذه هل هي في محلّها؟ أم أنها جاءت متأخرّة، في ظلّ غياب سياسة زراعية واستراتيجية طويلة المدى؟ وهل يعود الى حزّورة: قمحة ولّا شعيرة”.
في بداية طرح المبدأ الاقتصادي “دعه يعمل، دعه يمر” في خمسينيّات القرن الماضي، استفاد لبنان واللبنانيون. هذه الاستفادة لم تطُل، والنهضة التي حصلت في الاقتصاد لم تأخذ صفة الاستدامة بسبب اندلاع الحرب، وبسبب عدم ارساء رؤية انتاجية داعمة للقطاعات الانتاجيّة، ومحفّزة للصناعيين والمزارعين.
بدل ذلك، أُلغيت وزارة التصميم. وأصبحت الأولويّة للتجارة والخدمات والسياحة والمطاعم والفنادق والقطاع المصرفي. وغاب الانتاج عن خارطة الاقتصاد الوطني.
كما زحف العمران والباطون، وقضم المناطق المصنّفة صناعيّة وزراعية، وبدأ بتآكلها وتصغير مساحاتها، بدل صونها وتوسيعها وحمايتها ورفع نسبة الاستثمار فيها.
أدّت السياسة الريعية إلى رفع سعر المتر المربّع في العقارات المبنيّة. وتحوّل قسم كبير من اللبنانيين الى مطوّرين عقاريين. فأصبحت كلفة الاستثمار في أرض صناعية أو زراعية خياليّة. لذلك، عمد أصحاب الشأن والاختصاص الى الانتقال أو التفكير بالانتقال الى بلدان عربية وخليجية وآسيوية وافريقية تقدّم الأرض مجّاناً أو بأسعار رمزية، هادفة الى جذب الخبرات والاستثمارات واقامة المشاريع التي توظّف اليد العاملة، وتنتج وتصدّر وتدخّل العملات النادرة.
ليس سهلاً اليوم أن يعود ابن البقاع الى زراعة سهله الذي كان يُسمّى “اهراءات الشرق” بالقمح. المزارع مُلوَّع بالوعود الكاذبة بالزراعات البديلة، ومَكويٌّ بارتفاع كلفة اليد العاملة والايجارات والمواد الكيميائيّة والبذور والمازوت والنقل والكوميسيون والكساد والمنافسة غير المشروعة.
كان الحري برئيس الحكومة أن يطلق برنامج “للزراعة المدعومة،” وليس أن يكتفي بالدعوة الى الزراعة.
أمّا بالنسبة الى تحديد ميقاتي زراعة القمح، فالأمر يعني أن المؤشّرات بهذا الخصوص غير مطمئنة. وهي تناقض إلى حدّ ما التخبّط الحاصل حول ما يرد من بيانات عن شراء كميات كافية من الطحين لمدة عشرين يوماً أو شهر، أو أن الباخرة الثانية في طريقها إلى الوصول والتفريغ في مرفأ بيروت أو مرفأ طرابلس.
وما يدعم الأجواء غير المطمئنة، مشاركة تجّار لبنانيين في معرض Europain الذي يقام سنوياً في العاصمة الفرنسية، ويعتبر أحد أهمّ المعارض الاوروبيّة المتخصّصة بصناعة الخبز ومكمّلاته ومتفرّعاته. عاد هؤلاء بعد انتهاء المعرض قبل يومين. وأبدوا للـ MTV عدم ارتياحهم، لا بل قلقهم من تطوّرات تجارة القمح والدقيق والطحين والزيوت النباتيّة والمارغرين والزبدة.
أحد التجّار الذي يشارك سنوياً في المعرض الذي يتحوّل إلى ملتقى لـ 300 عارض فرنسي واوروبي، ولعشرات آلاف الزوّار، قال إن المشكلة الجديدة التي تفجّرت بوجه كلّ تاجر، تمثّلت بارتفاع سعر طن الطحين نحو 60 في المئة، اضافة الى استحالة الحصول على بضاعة من مورّد جديد. بما يعني أنّك محكوم بالعلاقة مع المورّد الذي تتموّل منه. ولهذه العلاقة حيثيّات سلبيّة تُضعف موقف الشاري التفاوضي.
ويتخوّف المشاركون، العارضون والتجّار والزوّار، من اطالة الحرب في اوكرانيا وذيولها على الاقتصاديات العالميّة. وكانوا ترقّبوا أن مؤشّرات الانتهاء من فيروس كورونا بدأت تلوح في الأفق مع رفع العديد من الدول الحظر على الاختلاط، الأمر الذي يعيد العجلة الاقتصادية الى الدوران.
عادة، يضع الرجال المسؤولون في الدول الناجحة خططاً افتراضيّة وأخرى استباقيّة وثالثة بديلة ورابعة للطوارئ ليقوا شعوبهم الحرب والمرض والمجاعة.
لبنان على “حطّت ايدو” كما يقال، يسير وعين الله ترعاه. ولكنّ مسؤوليه أرادوا القيادة بأنفسهم واختاروا طريق المهوار.
المصدر : جو متني في موقع mtv