تتفوّق المصارف بين فترة وأخرى بابتداع طرق ملتوية لتنفيذ مصالحها. ويحصل أن تلتقي مصالحها مع مصالح كبار المستثمرين، وإن عَرَضياً، على قاعدة مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد. ففي عزّ الانحدار وامتناع المصارف عن إعطاء الودائع لأصحابها بذريعة عدم وجود سيولة كافية، تقوم بعض المصارف بشكل مبطَّن، بتقديم عروض لكبار المستثمرين للحصول على قروض بالدولار، في حين يجهَد المودعون للحصول على حقوقهم. فمن أين تأتي المصارف بالأموال وما هي خلفيات العروض؟
عكس التيار
ليس من المنطقي أن تعرض المصارف على بعض المستثمرين قروضاً في ظل الأزمة، وهي المتّهمة بالجزء الأكبر من المسؤولية، وهي على تماس مباشر مع المودعين المطالبين بأموالهم واللاجئين للقضاء المحلّي والخارجي لاستعادة ودائعهم. لكن المصارف تخلق منطقاً معاكساً للتيار، إذ تؤكّد مصادر من كبار المستثمرين، تقديم “خمسة مصارف كبرى على الأقل، عروضاً لقروض بالدولار”.
التفاصيل غير مكتملة حتى الآن، وغموضها يعود لسببين أساسيين، أوّلهما اختلاف العروض وشروطها بين مصرف وآخر، وثانيهما تكتّم المصارف والمستثمرين على التفاصيل. فمصرفياً، تفاصيل العروض متداوَلة على نطاق ضيّق داخل المصارف المعنية، ولا يعلم بها الكثير من المدراء. وكذلك الأمر بالنسبة للمستثمرين. فالمعلومات تختلف من مستثمر لآخر حسب حجم ونوع الاستثمارات.
المبالغ المعروضة تصل إلى ما بين 200 و300 ألف دولار “تفضّل المصارف استثمارها في القروض عوض تركها في الخزائن”، تقول المصادر في حديث لـ”المدن”. وتضيف أن “العروض لا تتوقّف وتكاد تكون زيارات المصارف واتصالاتها يومية”. وتستهدف القروض قطاعات “الصناعة والزراعة والتجارة، على حساب العقارات”.
ويستفيد المستثمرون من هذه القروض لتوسيع أعمالهم في الخارج والداخل، خصوصاً وأن كلفة الاستثمار والانتاج في لبنان انخفضت بفعل احتساب بعض التكاليف بالليرة، ومنها أجور العمال وخدمات الكهرباء والرسوم والضرائب، وغير ذلك من التكاليف.
حسابات خارجية
لا تقترب المصارف الراغبة بعرض دولاراتها، من مستثمرين يحصرون عملهم في لبنان، فمن المواصفات المطلوبة لانتقاء الزبون، أن تكون أعمال المستثمر على نطاق خارجي. وهذا الاستثمار العابر للقارات هو بمثابة “ضمانة للمصارف لتسديد القروض”.
تشجّعَت المصارف على اتخاذ هذه الخطوة بسبب مرونة العلاقة معها في الخارج حتى اللحظة. كما أن التحويلات منها إلى المستثمرين، تدور في الخارج، وعلى الأغلب، لن تقوم المصارف بتحويل مبالغ ضخمة إلى لبنان. وبالتوازي، ومن خلال هذه الخطوة، تحمي المصارف أموالها من أي طارىء يستجد في ملف الدعاوى القضائية ضدّها في الخارج، والتي قد تصل إلى الحجز على موجوداتها في المصارف الخارجية، أسوة بما بدأ في لبنان من حجز على الممتلكات والتضييق على أصحاب المصارف. واستطراداً، أغلب المصارف التي تعرض قروضاً على المستثمرين، هي من المصارف المحجوز على أملاكها وأملاك أصحابها وبعض رؤساء مجالس إداراتها.
وبتقديم العروض، يصبح جزءاً من أموال المصارف بين يديّ المستثمرين، فيسهل تحصيلها مع الوقت ولا تدخل ضمن الممتلكات المحجوزة أو المُطالَب بإعطائها للمودعين. وهي في هذه الحالة، تبقى في الخارج بالنسبة للبنوك، ويبدأ المستثمرون بإدخالها إلى لبنان كأموال نقدية “فريش” ويستفيدون منها بطريقة حرة من القيود المفروضة على سحوبات الودائع، حسب تعاميم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
أموال المودعين
لا مكان لصغار ومتوسّطي المودعين في هذا العرض. فأموال هؤلاء باتت منسية وتراهن المصارف على إقرار قانون الكابيتال كونترول الذي يطوي صفحة الممارسات السيئة بحق المودعين ويقونن الممارسات السابقة. ويأتي قرارها غير المعلَن بتقديم قروض لكبار المستثمرين بضمانات استثماراتهم الخارجية، كمسار يستكمل ما بدأته تجاه صغار ومتوسّطي المودعين. والمصارف في هذه الحالة، تستفز المودعين العالقة أموالهم، بدل توظيف فائض الدولارات في الخارج وتخفيف حدّة العلاقة معهم عبر إعطائهم أموالهم، أو التوافق مع مصرف لبنان على رفع سقف السحوبات الدولارية النقدية التي بدورها قد تهدّىء سعر صرف الدولار في السوق، من خلال عرض كميات إضافية من الدولار، كما تساهم هذه الخطوة في تحسين صورة المصارف داخلياً وخارجياً، وهي التي تحاول تجنّب النظرة السلبية للمصارف المراسِلة ووكالات التصنيف.
القروض المعروضة راهناً تثبت أيضاً الخلل البنيوي القائم على تكبير حجم القطاع المصرفي بأربعة أضعاف حجم الاقتصاد الكلّي، ما ساهم في الماضي باستقطاب الودائع وطفرة القروض. فالأموال المتداولة في القطاع المصرفي كان من المفترض استثمارها في الاقتصاد، لا تكديسها لتهريبها لاحقاً وإيصال البلاد إلى ما هي عليه.
المدن خضر حسان