أحد أهم الاسئلة التي تُطرح في الأروقة الديبلوماسية على مختلف تنوعها واتجاهاتها، هو: متى وكيف ستنتهي الحرب الدائرة في أوكرانيا؟
فالقذائف والصواريخ المنهمرة على ساحات القتال المتعددة أصابت شظاياها شرايين الطاقة العالمية ونظام الغذاء الدولي، والأهم أصابت قلب اوروبا وخارطة نفوذ القوى الكبرى ومصالحها المعقّدة والمتشابكة. ولأنّ خيار الانزلاق باتجاه حرب عالمية ثالثة ستكون نووية ومدمّرة للجميع هو خيار وضعه الجميع بعيداً على الرف، فإنّ الجواب البديهي والمنطقي بأنّ التسوية الناتجة من مفاوضات جدّية وفي العمق هي الخيار الوحيد المتاح.
لكن للذهاب في هذا الاتجاه، لا بدّ من ان تتكون ظروف لم تنضج بعد حتى الساعة. فالرئيس الروسي لن يقبل الدخول الى قاعة التفاوض الّا بعد إحرازه الانتصار المطلوب، حتى ولو كان انتصاراً شكلياً. لذلك فهو لن يتراجع الآن رغم الفاتورة الباهظة التي يدفعها، فأداء الجيش الروسي حتى الآن كان مربكاً، لكن من المبكر الاعتقاد بأنّ روسيا خسرت بالفعل، ومن الخطأ الاعتقاد ذلك. والعواصم الغربية تدرك جيداً هذه الحقيقة. ولأنّ خيار الحرب العالمية الثالثة غير موجود، فإنّ قرار المحاذرة من فتح أبواب التورط المباشر يُطبّق بصراحة. لكن العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن، تريد إطالة الحرب لاستثمار الوقت في حرب استنزاف لروسيا.
من هنا، فإنّ الهدف من استمرار تدفق الأسلحة النوعية الى الاوكرانيين يصبّ في هذا الاتجاه.
لكن الغرب يدرك انّ استمرار المسار السيئ للحرب بالنسبة لروسيا سيجعل بوتين اقل اهتماماً بالتفاوض الجدّي. وثمة أمثلة عدة في التاريخ لكيفية التعامل مع حالات مشابهة. ففي العام 1973 حققت مصر انتصاراً حربياً ضد اسرائيل، وهو ما سمح لاحقاً للسادات بالدخول في معاهدة سلام مع اسرائيل، وقد يكون بوتين بحاجة لوضع مماثل لكن الأهداف المطلوبة من حرب الاستنزاف لم تتحقق بعد، وهو ما سيتطلب على الأرجح بضعة اشهر قد تصل الى بداية الصيف، وهي فترة قد تكون كافية لإضعاف الاقتصاد الروسي والتأسيس لفصل اقتصاد اوروبا عن الغاز الروسي. عندها قد يحقق بوتين نصراً ميدانياً يسمح له بالدخول في مفاوضات جدّية. فموسكو مقتنعة بأنّ مصالحها الوجودية معرّضة للخطر عبر اوكرانيا.
أما المراهنون على سقوط بوتين، فإنّ العقوبات لم تؤدِ تاريخياً الى إسقاط الأنظمة، وبالتالي فإنّ الاعتقاد بأنّها ستُسقط بوتين هو محض هراء، فيما قد تؤسس لبداية إضعافه لكن هذا يحتاج لوقت اطول ولظروف مختلفة.
لذلك، سارع البيت الابيض لتوضيح إحدى «زحطات» الرئيس الاميركي حول إسقاط بوتين. الّا انّ اياً يكن ما سيحدث، فثمة خط سيعاود رسمه من جديد وللمرة الاولى منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، ليفصل بين اوروبا والدول الغربية وبين روسيا ومناطق نفوذها.
اذاً، امامنا اسابيع عدة وربما بضعة اشهر قبل إنجاز مفاوضات واسعة مع روسيا.
في هذا الوقت، لا بدّ لواشنطن من استغلال انشغال موسكو وإنجاز ملفاتها الملحّة في مناطق اخرى وتحديداً في الشرق الاوسط، حيث منابع النفط والغاز التي ستشكّل بديلاً عن النفط الروسي.
في عواصم الشرق الاوسط حركة ناشطة تنبئ بأنّها تجري تحضيراً لبدء مرحلة جديدة عنوانها الاتفاق النووي الايراني.
قمة ثلاثية مصرية – اماراتية – اسرائيلية في شرم الشيخ، وبعدها بأيام معدودة اجتماع سداسي هو الاول من نوعه في النقب، يضمّ وزراء خارجية الولايات المتحدة واسرائيل والمغرب ومصر والبحرين والامارات. هو اجتماع يدشن تحولاً في العلاقات العربية – الاسرائيلية وعنوانها الأساسي مواجهة ايران. قبل ذلك فتحت الإمارات ابوابها للرئيس السوري بشار الاسد، كإشارة على الاستعداد لاحتضانه من جديد داخل المجموعة العربية.
وأتبعت ايران ذلك بزيارة لوزير خارجيتها هدفها دمشق والاستماع عن قرب عن آخر المستجدات الخليجية مع دمشق، واستتبع زيارته الى دمشق بمحطة بيروت.
الاتحاد الاوروبي كان اعلن انّ الاتفاق النووي مسألة ايام.
وزير الخارجية الايرانية قال في بيروت في لقاء خاص، انّ 97% من الاتفاق جرى التفاهم حوله، وما تبقّى نقاط ثلاث فقط.
زيارة وزير الخارجية الاميركية الى الشرق الاوسط عنوانها الأساسي إعطاء التطمينات المطلوبة لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي. رئيس الوزراء الاسرائيلي بدا وكأنّه سلّم بالامر حين قال: «لم يعد هنالك من معنى لخوض صراع ضد الاتفاق النووي لأنّه بات قضية منتهية».
من هنا، يجب قراءة كل هذه الحركة الناشطة في المنطقة، وعنوانها الفعلي إعادة ترتيب المواقع والتحالفات لمواجهة الواقع الإيراني الجديد.
وفي اجتماع النقب، وهو الأهم من بين التحركات الاخرى، ثمة اعتراف كامل بدور اسرائيلي قيادي لمحور المواجهة مع ايران، حيث تستعد اسرائيل لملء جزء من الفراغ الناجم عن الانسحاب الاميركي من الانشغال باهتمامات المنطقة. وصحيح انّ السعودية لم تكن حاضرة في الصورة الجامعة، الّا انّ ليس من الصعوبة الاستنتاج بأنّها كانت حاضرة خلف الكواليس.
تكفي الإشارة الى كلام ولي العهد السعودي حول التحالف مع اسرائيل بعد حل النقاط العالقة مع الفلسطينيين. والكلام الذي يدور في الكواليس الديبلوماسية هو حول وجود مشروع اسرائيلي لربط الدول المشاركة بأنظمة إنذار اقليمية مضادة للصواريخ، إضافة الى تعاون عسكري كان بدأت ملامحه مع المناورات المشتركة.
طبعاً حماية العمقين السعودي والإماراتي من الصواريخ الحوثية تشكّل اولوية مطلقة لدول الخليج. لكن الامور قد لا تكون بهذه السهولة، مع الخشية من عودة الحماوة على الساحة الفلسطينية. فقريباً جداً سيتزامن عيد الفصح اليهودي مع حلول شهر رمضان، وهو ما سيرفع من احتمالات المواجهة واندلاع اعمال عنف مع الزيارات المستمرة لليهود الاسرائيليين الى المسجد الأقصى. لذلك تطلب اسرائيل ودول الخليج من الملك الاردني دوراً فاعلاً في هذا الاطار.
باختصار، هي بداية مرحلة جديدة بدأ رسمها فعلياً على الخارطة السياسية، حتى قبل الإعلان عن العودة الى الاتفاق النووي الايراني، وقبل انهاء حرب اوكرانيا، ما سيسمح لروسيا باستعادة أنفاسها، وهي اللاعب الكبير، انطلاقاً من سوريا.
في هذا الوقت، وكما العادة، ينشغل المسؤولون اللبنانيون في حسابات صغيرة كمثل التحايل على الواقع، إما لتطيير الانتخابات النيابية او لتحصيل مقعد نيابي اضافي.
وبدل الانصراف الى متابعة التحولات الكبرى الحاصلة في المنطقة، انشغال في «حرتقات» صغيرة بهدف كسب المواقع في السلطة.
«تشاطر» لبناني لم ينتج يوماً سوى الخراب.
وخلال وجوده في بيروت قال الوزير الايراني في جلسة خاصة، إنّ السؤال الذي يسمعه أينما ذهب، هو حول المفاوضات الايرانية – السعودية. لكنه اضاف انّ ما لاحظه بأنّ التركيز على هذا السؤال بالذات كان في لبنان، اكثر بكثير من أي مكان آخر.
وبات معروفاً انّ السفير السعودي سيعود الى مقر عمله في بيروت قريباً جداً.
لكن ما ليس معروفاً انّ هذه العودة ساهمت فيها الديبلوماسية الفرنسية من خلف الكواليس. هي جاءت استكمالاً لزيارة الرئيس الفرنسي الى الرياض في كانون الاول الماضي. لكن اللافت انّ حرب اوكرانيا لم تمنع باريس من استكمال مهامها في لبنان، وهي التي لا تزال تحتفظ بقناة تواصل مفتوحة مع «حزب الله» من خلال سفيرتها في بيروت، وكانت قد سمعت التزاماً من «حزب الله» بحصول الانتخابات النيابية في موعدها.
في المقابل، وعدت باريس بعقد مؤتمر حول لبنان اول الصيف المقبل. ولا بدّ من قراءة العودة السعودية الى لبنان انطلاقاً من السعي لإعادة توازن اقليمي مفقود حتى الآن للتحضير للمرحلة المقبلة.
والمقصود هنا المحافظة على اتفاق الطائف، فيما تتصاعد الشكوك حول وجود تفاهم سري بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» للذهاب الى المثالثة. وهو ما يفسّر الدعم المطلق من قبل «حزب الله» لـ»التيار الوطني الحر» في الانتخابات النيابية. وتردّد انّ البابا فرنسيس اراد ان يسمع مباشرة من الرئيس ميشال عون حيال ضمان عدم نسف الدستور.
والمقصود بموضوع استعادة التوازن الذي تسعى اليه باريس، هو أن يكون للسعودية حضور وحصة في تسمية الرئيس المقبل للحكومة، والذي سيكون على الأرجح نجيب ميقاتي، والأهم في اختيار الرئيس المقبل للجمهورية.
ولا شك انّ السعودية فقدت أحد ركائز حضورها مع التشتت الذي أصاب الساحة السّنية، وهو ما يظهر بوضوح في كيفية خوض الاستحقاق النيابي.
لكنها تبقى ممسكة بأوراق قوة اخرى، في طليعتها قدرتها على إعادة انعاش الاقتصاد اللبناني ومواكبته لاستعادة عافيته عندما سيحين الوقت، تماماً كما هو حاصل ويجري التحضير له مع الانفتاح على الرئيس السوري بشار الاسد. هي مرحلة اخرى تنتظر لبنان، لكن ظروفها لن تنضج قبل إغلاق ملف الحرب في اوكرانيا وإنجاز تسوية شاملة مع روسيا ستطال الشرق الاوسط من دون شك.