استفاقة متأخرة للحكومة على مشروع “الكابيتال كونترول” فرضتها المواجهة القضائية – المصرفية الاخيرة على خلفية تنفيذ دعاوى قضائية في حق مصارف، باتت تهدد “الأمن المالي والمصرفي”.
فرصة ذهبية للحكومة ان تضرب عصفورين بحجر واحد. فالقيود على السحوبات والتحاويل مطلب يندرج ضمن أولويات توصيات صندوق النقد الدولي، وتلبيته ستسجل نقطة إيجابية لدى الصندوق الذي يحرص على التأكد من وجود تشريع يحظر التصرف بالأموال التي سيحصل عليها لبنان بعد توقيعه برنامجاً معه، في حين تلتقط المصارف انفاسها إزاء الدعاوى القضائية التي تتهددها، والتي تعالج استنسابياً اوضاع مودعين على حساب مودعين آخرين عاجزين عن اللجوء الى القضاء.
يأتي المشروع الحكومي ملتبساً، طارحاً اكثر من علامة استفهام ليس حول توقيته، وقد بات واضحاً ارتباطه بالمواجهة القضائية كعنصر مهم لتهدئة الشحن والاحتقان والاستغلال الشعبوي في زمن الانتخابات، وإنما حول مضمونه المفخخ، والطريقة التي طُرح بها، والتي بدت وكأنه تهريبة في وضح النهار، بعدما أعلن نائب رئيس مجلس الوزراء ان المشروع أرسل الى اللجان المشتركة لدرسه الاثنين تمهيداً لعرضه الثلثاء على مجلس النواب لإقراره.
هذه الطريقة كانت لتصحّ، بل كانت هي المطلوبة لو كان تاريخ الإحالة يعود الى تشرين الاول 2019، حين كانت الاولوية المطلقة في ذلك الوقت لإقرار قانون يفرض قيوداً على السحوبات والتحويلات وينظمها. لكنه في الواقع أتى بعد عامين ونصف عام على تفجر ازمة شُح السيولة الدولارية، وتبخر الودائع وسط عقم فاضح في تحمّل مسؤولية تدارك الأزمة أولاً، ومن ثم احتوائها وأخيرا مواجهتها بما يضمن فعلاً لا قولاً حقوق المودعين وكراماتهم، بدلاً من تركهم يتعرضون للذل والإهانات المتعددة الوجه بفعل الاستهتار الرسمي والتلكؤ عن تحمّل التبعات.
اذا كان المشروع يثير الأسئلة من حيث الشكل، فكيف عند الاطلاع على مضمونه الملغوم الذي يكرس الصلاحية والمسؤولية في تنفيذه في يد الافرقاء الذين يتحملون مسؤولية ما آلت اليه الأزمة؟
لا يخلو بند من بنود المشروع من الشكوك المحيطة بنيّات واضعيه، ولا سيما في المادتين 7 و8.
فالمادة الثامنة تجيز انشاء لجنة خاصة مؤلفة من وزيري المال والاقتصاد وحاكم المصرف المركزي ويرأسها رئيس الحكومة، وتكون مسؤولة عن إصدار التنظيمات التطبيقية المتعلقة بهذا القانون، ولا سيما ما يتصل بحظر نقل الأموال عبر الحدود او بالتحاويل وبمدفوعات الحساب الجاري والقطع وتحديد سقوف الحسابات النقدية وبإعادة أموال الصادرات وغيرها من التدابير الخاصة المتعلقة بسعر صرف العملات الأجنبية، كما يعود للجنة صلاحية منح إعفاءات محددة حول القيود المفروضة بموجب هذا القانون وتكون قراراتها ملزمة ونهائية. أي بكلام آخر، ناط المشروع صلاحيات مطلقة بلجنة وليس ببنود واضحة، واضعاً رقبة المودعين أفراداً ومؤسسات تحت سيفها، بما ترتبه صلاحيات كهذه من استنسابية في التطبيق، وما يتركه من ثغرات يمكن الولوج منها للاستمرار في اجراء سحوبات او تحاويل وفق مصالح خاصة.
أما المادة السابعة فتشكل رصاصة رحمة للقطاع الصناعي، الذي استثنيت عائدات صادراته من اعتبارها أموالاً طازجة، حيث اعتبرت المادة ان الأموال المتأتية من عائدات التصدير لا تُعتبر جديدة ويعود للجنة تقرير كيفية استخدام العملات الأجنبية الناتجة عن عائدات التصدير، كما يعود للجنة ان تحدد الشروط والأحكام الخاصة المتعلقة بالعائدات المالية للصادرات وطريقة تسويتها بموجب تعميم يصدره المصرف المركزي لهذه الغاية.
ويعود ايضاً للجنة تحديد القيود المفروضة على التحاويل بالدولار او بالليرة بين المصارف واستخدام الشيكات. كما يحظر المشروع فتح حسابات جديدة او تفعيل حسابات راكدة. وهذه القيود تحدد سقف السحوبات الشهرية بألف دولار على ان تحدد اللجنة العملة التي يتم على اساسها السحب.
ليس هذا إلا غيض من فيض ما لحظه المشروع المقترح الذي، وحتى الآن، بل على العكس، بدا وكأن تسريبه كان مقصوداً لإظهار حسن نية الحكومة وجديتها بالاستجابة لصندوق النقد، في حين جاءت ردود الفعل الاقتصادية والسياسية على السواء، ساخطة ورافضة له.
وهذا يقود الى خلاصة بأن المشروع لن يبقى بصيغته الراهنة على مشرحة اللجان النيابية المشتركة اليوم اذا كان فعلاً هناك نية لإقراره في جلسة الثلثاء النيابية، وإلا، فإن مصيره السقوط، تماماً كما كان مصير المشروعين السابقين اللذين أُعِدَّ احدهما في حكومة حسان دياب والثاني في حكومة ميقاتي.
وفي المعلومات، ان حركة اتصالات كثيفة اجرتها قطاعات اقتصادية بكتل نيابية وعلى رأسها رئيس المجلس النيابي نبيه بري من اجل استيضاح حيثيات المشروع. وعلم ان تحرك رئيس جمعية الصناعيين المنتخب حديثاً سليم الزعني الى جانب مجلس الجمعية قد أفضى الى إلغاء المادة السابعة من المشروع، فيما كشف النائب نقولا نحاس في الموازاة ان العمل لا يزال مستمراً على عدد من البنود الواردة في المشروع والتي تخضع لتعديلات لإحالته بصيغة معدلة نهائية الى المجلس اليوم. وتأخذ هذه التعديلات في الاعتبار الملاحظات والاعتراضات المقدمة على الصيغة – المسودة المقترحة.
كما علم ان رئيس المجلس ولدى مراجعته من قِبل جمعية المصارف أولاً رفض السير بأي مشروع لا يراعي حقوق المودعين، على غرار الصيغة المقترحة. وكشفت أوساطه ان بري سيستمع الى ملاحظات النواب وسيواجه بين تلك الملاحظات وما سمعه من الهيئات المعترضة للوصول الى صيغة ترعى حقوق المودعين في الدرجة الاولى، انطلاقاً من التوافق المشترك بينه وبين ممثلي صندوق النقد الدولي الذين زاروه قبل فترة قصيرة حيال هذه النقطة.
والواقع ان تحميل مسؤولية هذا المشروع للصندوق لا تبدو دقيقة إطلاقاً، باعتبار ان الصندوق، وكما نُقل عن أوساطه، يولي الاولوية للقطاعات الإنتاجية، ولحقوق المودعين، بالتوازي مع أولويات اعادة هيكلة القطاع المصرفي وتأمين عودة النشاط الاقتصادي والمصرفي من اجل استعادة النمو.
وعليه، لا تستبعد مصادر نيابية ان يكون اقرار المشروع مرهونا بالتعديلات التي سيخضع لها، وإلا فإن بقاء المشروع في صيغته الحالية سيعرّضه للسقوط، مشيرة الى ان الاتجاه يذهب نحو اقرار التعديلات المقترحة إرضاء لصندوق النقد وسحب فتيل الدعاوى القضائية في وجه المصارف!
المصدر : سابين عويس – النهار