في العمق، تدهورت العلاقة بين الخليجيين وإدارة بايدن. ويعمد كل من الطرفين إلى معاقبة الآخر. وأجرى الخليجيون مراجعة جذرية للأرباح والخسائر من تحالفهم مع واشنطن. وهذا ما دفعهم إلى انتهاج موقف شديد الدقّة في ملف أوكرانيا، فرفضوا الانصياع لطلب الأميركيين زيادة إنتاج النفط والغاز، بهدف إضعاف الموقف الروسي، مع علمهم بالعواقب المحتملة.
الأرجح أن الخليجيين قرّروا أخذ أمورهم بأيديهم بعد دراسة التوازنات الإقليمية والدولية، وانتهاج استراتيجية جديدة استباقاً للتحوّلات المرتقبة في فيينا وكييف. ومن الواضح أنهم يسعون إلى ضمان موقعهم من خلال علاقات أكثر توازناً على مفترق المصالح بين الشرق (روسيا، الصين) والغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)، وفي خريطة التوازنات الإقليمية (إسرائيل، إيران، تركيا).
ويسعى الخليجيون إلى لملمة ما أمكن من أوراق واستثمارها. واليمن هو الخاصرة التي يريدون تأمينها أولاً، ومنه ينطلقون للتفاوض على النقاط الأخرى في الشرق الأوسط. وهناك رهان على تحقيق نتائج من الحوار المرتقب بين السعوديين والحوثيين، ومن خلالهم إيران. وعلى الأرجح، سيُستأنف الحوار المجمَّد مع الإيرانيين أيضاً.
ولا تقتصر شكوى الخليجيين من بايدن على ملف اليمن والحوثيين، بل تتعداه إلى الدول العربية التي تُمسك طهران بالقرار فيها. ففي العراق يتجرّأ الإيرانيون، وفي آخر الفصول توجيه الصواريخ إلى أربيل. والجسر الذي يقيمونه عبر سوريا يبقى متماسكاً. وأما في لبنان فهم مقبلون على ترسيخ النفوذ لسنوات، بالانتخابات أو من دونها.
في هذا المشهد، جاء تسريع خطوات التطبيع مع الرئيس السوري بشّار الأسد، بتشجيع روسي وعدم ممانعة إسرائيلية. وما يعني لبنان هو ذلك الانفراج المفاجئ في العلاقات الخليجية معه، والإعلان عن عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت، في اللحظة التي كان الأسد يحلّ فيها ضيفاً على الإمارات، وفيما تتردَّد معلومات عن احتمال قيام مسؤول سعودي بزيارة دمشق.
هذا الخلط القوي للأوراق يفتح الباب لاحتمال إبرام تسويات بين الخليجيين وإيران. ولكن أيضاً، سيكون لإسرائيل رأي في أي تسوية آتية، بعدما باتت موجودة بقوة داخل المعادلة العربية. ولذلك، سارَع رئيس وزرائها نفتالي بينيت، إلى قمة مفاجئة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في شرم الشيخ. في أوقات سابقة، قيل الكثير عن مقايضة قد يوافق عليها الخليجيون: اليمن مقابل لبنان. وهذا الكلام يتردَّد اليوم أيضاً: إيران تتكفل بوقف استخدام اليمن خاصرةً ضعيفة لاستهداف السعودية والإمارات، وفي المقابل، يسلِّم السعوديون بنفوذ إيراني في لبنان.
البعض يقول: صيغة التسوية ربما تقضي بتكليف الأسد دوراً جديداً لتحقيق التوازن ما بين السعودية وإيران في سوريا ولبنان. فالإيرانيون يقبلون بدور الأسد، حليفهم الذي قاتلوا طويلاً من أجله. وأما السعوديون فيفضلون التعاطي معه بدلاً من التعاطي مع إيران. وسبق أن اعتمدوه في لبنان لسنوات.
يعني ذلك احتمال التوصُّل إلى تغطية سورية- سعودية لـ«طبخة» معيّنة في لبنان. وفي الترجمة اللبنانية الشائعة، عودة الـ»س-س»، وما يمكن أن تقود إليه لبنانياً، أي اتفاق جديد في حجم الطائف أو في حجم الدوحة. لكن العارفين يقولون: هذه التسوية تبقى رهناً بالتغطية الشاملة إقليمياً ودولياً، لأن أي قوة متضرّرة يمكن أن تعطِّلها بسهولة. فإسرائيل لها مطالبها المعروفة، والأميركيون لهم شروطهم ومصالحهم ولا يمرّ حلّ من دونهم. فهل تتمّ الصفقة التي ترضي الجميع؟ وهل يستثمرها لبنان للنهوض أم يكون ضحيةً لها؟
كل التقديرات «الموضوعية» تؤشّر إلى أن «حزب الله» وحلفاءه سيعودون إلى المجلس بغالبية تفوق تلك التي يتمتعون بها اليوم