نسمع خلافات اليوم تسود بين المودعين سببها ما يُقال إنّه سيتمّ إرجاع الودائع للمودعين الصغار، اما المودعون الكبار سيتحمّلون نتائج الخسائر، بما معناه انّه سيتمّ إرجاع أموال 90% من المودعين، وانّ المودعين الكبار هم رأس الحربة في الهجوم على المصارف.
هذه النظرية مؤذية وستؤدي إلى خراب البلد وتُدخله في دوامة كبيرة سيجعل من الصعب الخروج منها.
اولاً، يبدو انّ هناك هدفاً مرسوماً لشق وتفريق اصحاب الودائع لتصبح كل فئة تدافع عن حقوقها بمفردها، هذا سيضيّع الحقوق والودائع.
ثانياً، حقوق المودعين الصغار توازي بأهميتها حقوق اصحاب الودائع الكبيرة، وأي خلل في احترام المساواة في الحقوق سينعكس أزمات متتالية.
ثالثاً، نظرية انّ كل صاحب وديعة كبيرة هو حكماً مستفيد من فساد، هي نظرية خاطئة، ستقضي على ما تبقّى من ثقة بهذا البلد. بالطبع هناك بعض المودعين الكبار هم مسؤولون عن الأزمة، واستفادوا من الفساد والهندسات المالية والصفقات والاحتكارات الخ … ولكن أخرجوا أموالهم من لبنان قبل وبعد 17 تشرين، ولا تزال التحقيقات والتصريحات تُظهر حجم المبالغ التي تمّ تحويلها من لبنان .اما ما بقي من ودائع كبيرة، فهي لمودعين أوادم، حققوا نجاحات في الاغتراب وفي الوطن، ووثقوا بوطنهم واستثمروا فيه وحوّلوا اموالهم اليه، صنعوا اموالهم بالتعب والجهد والغربة، ولم يستفيدوا من عقود خاصة او هندسات، بل على العكس تحمّلوا بيئة غير صديقة للاستثمار. هؤلاء لم يملكوا معلومات داخلية خاصة (inside information) لتهريب أموالهم قبل 17 تشرين، ولا يملكون سلطة لإخراج اموالهم بعد 17 تشرين. هؤلاء المودعون المنتجون الأوادم، هم الفئة المحرّكة للاستثمارات والاعمال (Motor Elements of Society).
نحذّر اليوم من انّ خسارة فئة كبار المودعين، وهي الفئة المحركة للاقتصاد، فيه خراب مقصود للبلد، ويبدو انّ هناك من يدفع بهذا الاتجاه ليُبقي لبنان رهينة عجزه الاقتصادي، وإبقائه مرتهناً للديون الخارجية لسنوات عديدة مقبلة .
انّ كسر الثقة اليوم عبر تطيير حقوق كبار المودعين ستوقف اي استثمارات او مشاريع في البلد لسنوات عديدة مقبلة، ولن يثق اي مستثمر او مغترب بإنشاء اي مشروع او استثمار او توظيف أمواله او تحويلها الى لبنان، وهذه ستشكّل ضربة قاضية.
وهذا سيؤثر على كل الفئات من دون استثناء ، وخصوصاً انّ الازمة اليوم ليست ازمة ودائع فحسب، بل ازمة معاشات وتعويضات تبخّرت، والحل يكون بتكبير حجم الاقتصاد والانتاج. فكيف سنقوم بذلك اذا فقدنا الفئة المحرّكة للاستثمارات، أي كبار المودعين؟
يجب إعادة كل ما تبقّى من الودائع لأصحابها بقيمتها الحقيقية (ارجاعها بقيمتها وليس بعملات أو طرق وهمية)، وهذا سهل تحقيقه لأنّ المصارف حققت ارباحاً عبر وسائل عدة خلال السنتين الماضيتين، وهذا شرحناه مراراً في مقالات سابقة. في المقابل، نحن مع محاسبة كل من استفاد بطريقة غير مشروعة بجني ارباح، واستفاد من حصريات واحتكارات وهندسات مالية، ومن رشاوى وسمسرات ومن سرقة للمال العام.
اخيراً، علينا ان ننتبه من تبعات ونتائج كسر الثقة. فالارجنتين مثلاً كانت من الدول القوية اقتصادياً أثناء العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، تخطّت الأرجنتين كندا وأستراليا في إجمالي الدخل، ودخل الفرد. بحلول عام 1913، كانت الأرجنتين عاشر أغنى دولة للفرد، بدءاً من ثلاثينيات القرن العشرين، تدهور الاقتصاد الأرجنتيني بشكل ملحوظ، وما زالت الأزمات تلاحقه حتى اليوم. في عام 1998، احتل القطاع المصرفي الأرجنتيني المرتبة الثانية، بعد سنغافورة، في تصنيف كاميلوت لتنظيم النظام المصرفي، الذي قدّمه البنك الدولي (بيري وسيرفين، 2003).
اما سنغافورة على سبيل المثال، فتحولت من بلد من دون موارد طبيعية الى أقوى الاقتصادات العالمية.
الفرق بين التجربتين هو اكتساب الثقة والحفاظ عليها في طريقة ادارة الامور، والاعتماد على الانتاج وتطوير التعليم وتعزيز الاستثمار.
فلنختر اليوم أياً من التجربتين نريد ان نكرّرها. ولنتصرف على هذا الأساس.
Ch23