لكي تكون مسؤولًا حقيقيًا وبالفعل وليس فقط بالإسم عليك أن ترى الأمور من منظار شامل، وليس من زاوية محدّدة وضيقة، وعليك ايضًا أن توسّع إطار افقك السياسي، فلا تكون مأسورًا بنظريات فئوية ومرتبطة بمصالح آنية لا تصّب في أغلب الأحيان في خانة المصلحة الوطنية المجرّدة من الغايات الشخصية.
هذا ما حصل عندما دعا الرئيس نجيب ميقاتي الحكومة إلى جلسة إستثنائية يوم السبت الماضي، وأقترح أن يحضرها كبار القضاة بهدف التشاور وتصويب البوصلة حيث يجب، وذلك بعدما لمَسَ لمْس اليد أن الأمور آيلة إلى فوضى غير بريئة في ما خصّ القطاع المصرفي نتيجة بعض القرارات القضائية، التي قد يكون وراءها بعض الأهداف السياسية لدى بعض الجهات، التي لها “أجندات” خاصة بها، وبالأخصّ ما يتعلق منها بالإستحقاق الإنتخابي.
أراد أن يتحمّل مجلس الوزراء كامل مسؤولياته الوطنية قبل أن تفلت الأمور وتذهب البلاد إلى الأمكنة الغلط، وذلك من دون الخضوع لمنطق الشروط والشروط المضادة، ومن دون الدخول في “بازارت” تسووية لن يكون لها مفعول سوى إدخال البلاد في خنادق متقابلة لا طائل منها.
فرئيس الحكومة يريد تطبيق الدستور، ولا شيء سوى الدستور، أيًّا تكن الظروف والإعتبارات، إذ لا شيء يضمن إستمرارية الحياة السياسية بمفهومها الديمقراطي سوى التمسّك بما ورد في وثيقة الطائف، نصًّا وروحًا، خصوصًا إذا طُبّق ما لم يُطبّق منه.
فالدستور الذي ينظّم بالتساوي شؤون الناس وعلاقتهم بين بعضهم البعض من جهة، وعلاقتهم بدولتهم من جهة ثانية، يشدّد على الفصل بين السلطات، وهو مبدأ أساسي من أجل إنتظام العلاقة السوية بين هذه السلطات، التي يُفترض أن تتكامل أدوارها لما فيه المصلحة العامة. فلا السلطة التنفيذية تتدّخل في عمل السلطة التشريعية، ولا تلك لها شأن بالعمل التنفيذي للحكومة ما عدا مراقبة أعمالها ومساءلتها، وعند الضرورة محاسبتها وحجب الثقة عنها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل القضائي. فما حصل في جلسة السبت يدخل في هذا الإطار المحوري، أي التعاون الواجب بين السلطات، وبالطبع تكامل أدوارها.
فعندما دعا الرئيس ميقاتي، بالإتفاق مع وزير العدل، القضاة الثلاثة إلى حضور الجلسة لم يكن “إستدعاء” كما حاول البعض ترويجه لغايات في نفس يعقوب يعمل في الخفاء ويفبرك الشائعات في الغرف السوداء، بل جاء ذلك للتشاور في ما يمكن أن يُتخذ من إجراءات وتدابير سريعة وحاسمة، وذلك منعًا لإستغلال البعض مواقعهم في السلطة القضائية لتمرير بعض المخططات المشبوهة.
فهذا التدّخل ليس تدّخلًا في الشأن القضائي، وليس كالتدخلات السياسية على مرّ العصور والعهود. ولو لم يكن هذا التدّخل حاضرًا وبقوة لكان القضاء في أحسن أحواله. ولو كان الجسم القضائي محصّنًا بما فيه الكفاية لما سمح للسياسيين بأن يحشروا أنوفهم في شأن من غير إختصاصهم، ولكان إستجاب القضاة لدعوة مجلس الوزراء ولقطعوا الطريق على المصطادين في المياه العكرة، وما أكثر المياه الآسنة هذه الأيام.
أمّا أن تصل الأمور إلى حدود إتهام مجلس الوزراء بالتدّخل في ما لا صلاحية له فإن ذلك يُعتبر من علامات الأزمنة، حيث تختلط الأمور بعضها بالبعض الآخر، فلا يعود يُعرف من هو القاضي ومن هو المتهم، ومن هو الحريص على القضاء والقطاع المصرفي معًا، ومن يعمل على توريط القضاء للقضاء على ما تبقّى من وجود للأمل بالغد.
من يعمل على القضاء على القطاع المصرفي يعرف جيدًّا أن البلاد لا يمكن أن تستقيم أمورها إذا إنهار هذا القطاع، وهذا لا يعني في أي حال من الأحوال عدم المطالبة بحقوق المودعين. ولأن هؤلاء يعرفون أن الإنهيار الكامل للإقتصاد يكون بضرب القطاع المصرفي نراهم ينقادون إنقيادًا أعمى في هذا المخطّط الجهنمي.
المصدر: لبنان 24 – اندريه قصاص