صارَ المودِع في لبنان تائهاً. مهما كانت السّلطة السّياسيّة مخطئة ومقصّرة، وربّما متواطئة، فالأكيد أنّ هذا لا يعطي الحقّ لبعض القضاة أن يرسموا السّياسة الماليّة العامّة للبلد، ولا أن يحدّدوا طريق الحلّ السياسي لأكبر أزمة ماليّة تواجه لبنان منذ تأسيسه.
ولا يحقّ أيضاً للسّلطة التنفيذيّة التدخّل في عمل السّلطة القضائيّة انطلاقاً من مبدأ فصل السّلطات في الدّستور. وهذا ما سارَع إلى توضيحه الرّئيس نجيب ميقاتي يوم السّبت الماضي بعدما نفى التدخّل في الشؤون القضائية، لكنّه قال إنّ هناك “مكامن خلل”.
هكذا إذاً صارَ الضّياعُ سيّد الموقف، بين قرارات شعبويّة أصدرها بعض القُضاة، وبين تقاعس السّلطة السّياسيّة عن إقرار القوانين والإجراءات التي تحمي المودعين، حتّى كاد برميل البارود أن ينفجر بين السّلطتيْن يوم السّبت.
ماذا في كواليس يوم السّبت؟
بحسب معلومات “أساس” أنّه بعدما دعا مجلس الوزراء رئيس مجلس القضاء الأعلى سُهيل عبّود والنّائب العامّ التمييزي غسّان عويدات ورئيس التّفتيش القضائي بُركان سعد إلى حضور جلسة السبت، اتّصَل عبّود بوزير العدل لإبلاغه قرار القُضاة عدم الحضور. وقد دفع اتصال عبّود ميقاتي إلى أن يُصدرَ بياناً يُعلن فيه غياب القُضاة عن الجلسة “بعد مُشاورة وزير العدل”، وذلك تجنّباً للإحراج.
لم يقف الاستخفاف بالسّلطة القضائيّة عند حدود “الاستدعاء” إلى جلسة حكومية، بل إنّ مسؤولاً حكوميّاً تولّى توجيه الدّعوات للقُضاة. وقال للقاضي بُركان سعد “مُستهزئاً” حينما سأله عن سبب طلب حضوره الجلسة: “مُناقشة الأمن الغذائي”.
صارَ من شبه المُؤكّد أنّ القُضاة لن يسيروا بطلب ميقاتي حصر الملفّات الماليّة بيد النّائب العام التّمييزيّ، ولن يتدخّلوا بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر في قضيّة أموال المودعين.
وتُفنّد مصادر قضائيّة في حديث لـ”أساس” مطلب ميقاتي بالقول إنّ “القضاء تدخّل غير مرّةٍ وسحب ملفّات ماليّة كانت النّائبة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان غادة عون قد فتحتها”.
القضاة والشهرة والشعبويّة
أُضيفت اليوم إلى ملفّات غادة عون قراراتٌ شعبويّةٌ طالت بعض المصارف مصدرها قضاة يلاحقون الشهرة.
في البداية ليسَ هناك خلافٌ أنّ القضاء وسيلة ضغطٍ يستعملها المودع للحصول على وديعته، لكن في الوقت عينه هل يكون حجزُ موجودات مصرفٍ كاملٍ هو الحلّ الأنسب لاسترجاع أموال مودع واحد؟ وماذا عن بقيّة المودعين؟
الجواب بحسب مصادر قضائيّة مُطّلعة على تفاصيل الملف هو: “قطعاً لا”.
لكن يسأل المصدر في الوقت عينه: هل أقرّت السّلطة السّياسيّة ما عليها من قوانين مثل الكابيتال كونترول لحماية الودائع؟ وهل يمنع القانون المودع من اللجوء إلى القُضاة لتحصيل وديعته؟ هذا بغضّ النّظر عن لجوء كثير من القضاة إلى قرارات مُبالغٍ فيها تحمل وراءها شعبويّة لا لَبسَ فيها.
شبيب: تفعيل التّفتيش القضائيّ
تواصل “أساس” مع مُحافظ بيروت السّابق القاضي زيّاد شبيب، الذي حمّل السّلطة السّياسيّة المسؤوليّة في الدّرجة الأولى بسبب تخلّفها عن إقرار قانون الكابيتال كونترول، منذ اليوم الأوّل لثورة 17 تشرين 2019، ولم ينفِ وجود بعض القرارات “المُبالغ فيها” من قبل بعض القضاة، التي تستفيد منها جهات سيّاسيّة، لكن في الوقت عينه قال إنّ معالجة هذه القرارات وتنظيم الخلاف المُستجدّ بين الحكومة والقضاء يكمنان في تفعيل “التّفتيش القضائي”.
وأشار شبيب إلى أنّ الدّستور لا يُلزم القضاة حضور جلسة مجلس الوزراء في حال طلبهم، وفي الوقت عينه لا يمنع الحكومة من طلب حضورهم. وسأل: “إلى أيّ مدى الحكومة والقضاة مُستقلّون؟ وهل تحترم السّلطة السّياسيّة مبدأ استقلال القضاء أساساً؟”.
أمّا عن القرارات التي صدرت أخيراً بحقّ بعض المصارف، فقد أشارَ شبيب إلى أنّ غياب دور هيئة التفتيش القضائي، وغياب مبدأ المُحاسبة في الجسم القضائيّ أوصلا بعض القضاة إلى اتّخاذ قرارات مُبالغ فيها.
ورأى شبيب أنّ “الحلّ يكمن في تفعيل التفتيش، وتطبيق أصول المُحاكمات، وعندئذٍ لن يستطيع أيّ قاضٍ أن يُصدر أحكاماً مُخالفة للقانون أو شعبويّة، ولن يجرؤ على السماح بأن يُظلَم المودع أو المصرف”.
واعتبر أنّ “إقرار قانون “الكابيتال كونترول” صارَ اليوم مطلباً مُلحّاً للمصارف أكثر منه للمودعين. إذ إنّ إقرار القانون مُتأخّراً أكثر من سنتين يجعل منه ستاراً للمصارف بوجه أصحاب الودائع، على عكس ما كان الحال في نهاية 2019″.
عقيص: لتفعيل القانون 2/67
في السياق نفسه كان لافتاً مقطعُ الفيديو الذي نشره عضو تكتّل الجمهوريّة القويّة النّائب والقاضي السابق جورج عقيص على صفحته على تويتر. فقد ذكر عقيص في المقطع أنّه لا يجوز للمصرف أن يتخلّف عن دفع الوديعة للمودع بالعملة التي أودعها بها، وأنّه يحقّ من حيث المبدأ للقضاء بأن يحجز أموال المصارف التي تتخلّف عن دفع ديونها للعملاء.
لكن لفت عقيص إلى أنّ كثيرين يفوتهم القانون 2/67 الذي ينصّ على الإجراءات التي ينبغي اتّباعها في حال تخلُّف المصارف عن سداد ديونها، ومن ضمنها ودائع العملاء، والتي تبدأ بأن يستحوذ مصرف لبنان على موجودات المصرف المُتعثّر، ثمّ تتشكّل لجنة من القضاة، وبعدئذٍ يُخابر وزيريْ المال والعدل، ثمّ يتّخذ سلسلة إجراءات في صلبها حماية أموال المودعين، وتوزيع ممتلكات المصرف على جميع المودعين لا إعطاؤها إلى مودعٍ واحد.
ورأى النّائب عقيص أنّ ما يحصل اليوم هو أنّ القضاء يحاول أن يحفظ حقّ مودع واحد، فيما يُعرّض حقوق باقي المودعين للخطر. وتمنّى على القضاء تطبيق القانون المذكور لحماية المودعين، وإجراء التعديلات اللازمة عليه.
ما هي الحلول المتاحة في نزاع القضاء مع المصارف؟ pic.twitter.com/5OjOtWE82T
— George Okais (@OkaisGeorge) March 20, 2022
أين يكمن الحلّ أيضاً؟
على مقلب الحلول أيضاً، يذكر مصدر قضائيّ لـ”أساس” أنّه إذا أرادت الحكومة فعلاً استعادة الأموال المهرّبة وأموال المودعين قضائيّاً، فالجهة القضائيّة الوحيدة المُخوّلة الادّعاء في هذا الإطار هي هيئة القضايا في وزارة العدل باعتبارها “مُحامي الدّولة”.
وكما شبيب، حمّل المصدر القضائي السّلطة السّياسيّة المسؤوليّة لأنّها لم تُقرّ حتّى السّاعة قانون “الكابيتال كونترول”، على الرّغم من مرور سنتين ونصف على “اشتعال” الأزمة الاقتصاديّة والماليّة.
حزب الله: أين البيطار؟
هذا في الأطر القانونيّة. لكن ماذا عن المواقف السّياسيّة التي لمّح فيها ميقاتي إلى “إرسال القُضاة وعويدات إلى البيت”؟
نعود بالذّاكرة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى يوم إعلان الثّنائي الشّيعي العودة إلى حضور جلسات الحكومة. يومئذٍ جاء في البيان أنّ “الحزب والحركة” سيُشاركان في الجلسات التي تُناقش الموازنة والأمور المعيشيّة للمواطن.
وكان الثّنائي الشيعي قد علّق مشاركته في الحكومة على إثر امتناع رئيسيْ الجمهوريّة والحكومة عن بحث ملفّ مرفأ بيروت على طاولة مجلس الوزراء.
أمّا اليوم فيُشير مصدر مُقرّب من “حزب الله” لـ”أساس” إلى أنّ الحزب لن يتهاون في ملفّ مُلاحقة سلامة والمصارف، وأنّ الحزب بدأ يُرسل إشارات إلى مَن يعنيهم الأمر بأنّ أيّ تعيينات تشمل القضاء ينبغي أن تشمل قاضي التّحقيق العدليّ في قضيّة مرفأ بيروت طارق البيطار.
هي معركة تختلطُ فيها الأحكام الشّعبويّة بالسّياسة والانتخابات، وضحيّتها أصحاب الودائع والمواطنون الذين يرتبطون عضويّاً بالمصارف التي تهدّد بالإقفال والغياب عن السمع ووقف تعاملاتها معهم في إطار المواجهة التي تخوضها مع السلطة القضائية.