قبل شهرين من موعد الإنتخابات النيابية هبّ بعض القضاء فجأة، ومن دون سابق إنذار، وشربوا “حليب السباع” جرعة واحدة، وقرّروا الإقتصاص من المصارف، وهذا ما كان يجب أن يفعله كل القضاء وليس بعضه منذ زمن بعيد وليس فقط لإغراض سياسية وأجندات إنتخابية.
وعلى ذمّة الراوي، يُقال إن وراء “هبّة” هذا البعض من القضاء بعض المتضررين ما يمكن أن تكون عليه نتائج الإنتخابات النيابية، وذلك على خطّين متوازيين: الأول، يعتمد على الشعبوية لتحصيل، في 60 يومًا ، ما خسره هذا الفريق السياسي خلال السنوات الخمس الماضية، من خلال تقديم نفسه لقاعدته أولًا، ولـ”ثوار 17 تشرين” ثانيًا، بأنه الطرف السياسي الوحيد الذي يستميت دفاعًا عن حقوق صغار المودعين.
أمّا الخطّ الثاني فيقوم على جدلية دفع المصارف إلى مشارف الإقفال الشامل، الذي سيخلق بلبلة وفوضى غير مسبوقين في الأسواق المالية، وهذا من شأنه أن ينعكس توترًا سياسيًا وأمنيًا قد يفضي إلى “تطيير” الإنتخابات، أو في أفضل الأحوال تأجيلها.
ولأن الوضع يتجاوز مجرد إجراء قضائي ضد عدد من المصارف كان لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي موقف لافت في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء محذّرًا من “تطوّر الأمور إلى ما لا تحمد عقباه” بشكل سيجعل المودعين “يدفعون الثمن مجدداً”، مصوّباً بشكل خاص على “ما يحصل من عشوائية وانفعالية” في القضاء تجاه المصارف، في إشارة إلى أداء القاضية غادة عون من دون أن يسميها، مكلفاً وزير العدل متابعة الملف وإعادة تصويب الأمور، انطلاقاً من تشديده على أنّ “ما يحصل في هذا المجال لا يمت إلى الأصول القضائية بصلة”.فهذه العاصفة القضائية اتخذت دلالات وأبعادًا خطيرة ورتّبت مفاعيل أشد وقعاً واكثر إثارة من أي جولة سابقة من جولات ملاحقة القاضية غادة عون وغيرها من القضاة لعدد من المصارف، ذلك أن ما أثاره اقفال فروع مصرف “فرنسبنك” من تداعيات واسعة يخشى ان تتدحرج تباعا وان يكون المودعون مجدداً وقوداً وضحايا دائمين لهذا الصراع الذي يصعب تصور عدم وجود أنامل سياسية تحركه بين القضاء والمصارف لغايات مريبة.
فما عشناه في اليومين الماضيين، على حدّ قول بعض العارفين، يثبت أننا نعيش جنونًا لا مثيل له. وهذا الواقع يشبه تمًامًا من يطلق النار على نفسه.
فالطريقة الإستعراضية والبوليسية التي تتم فيها مقاربة ملف حقوق المودعين، ونحن منهم، والقضايا القضائية المرتبطة بالمصارف خطرة جدًّا، ومن شأنها تقويض ما تبقى من ثقة بالنظام المصرفي، وسيدفع المودعون مجددًا الثمن.
فإذا كنا نرفع الصوت فليس للدفاع عن المصارف، بل عن حقوق المودعين فيها. فما يحصل هو إستباحة للقطاع المصرفي أكثر من أي شيء آخر، على رغم مآخذنا الكثيرة على أداء مجمل هذه المصارف، إلاّ أن الطبقة السياسية التي تعاقبت على السلطة وتسببت بخياراتها الإقتصادية في الإنزالق الى الهاوية يناسبها التصويب على القطاع المصرفي لصرف الإنتباه عنها ولَصق كل الموبقات بها. كما أن التصويب على المصارف هو إجراء شعبوي ويرضي الناس المحتجزة ودائعهم ولكنه لا يعطيهم الحلول.
وفي ضوء ما أبلغة الرئيس ميقاتي لوزير العدل حول ضرورة أخذ السلطات القضائية المعنية المبادرة في تصويب ما حصل نسأل مع السائلين حول ما يمكن حصوله اذا إستمرّ من يقفون وراء هذه “الحركات الصبيانية” بجعل هذا الملف ورقة في المزايدات الإنتخابية.
المتوقع أن تنهال الدعاوى من خارج لبنان على المصارف ويبدأ الحجز الجماعي على ممتلكات الدولة ومعها ربما مصرف لبنان، ويدخل لبنان في نفق مالي مظلم لا نهاية له، فيخسر اللبنانيون العالقون ما بين العوز والفقر، وبين ندرة السيولة بعض المصل المالي الذي كان يمدهم ببعض القدرة على الصمود.