بين ليلة وضحاها، انقلب المشهد السياسي رأساً على عقب اثر اعلان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في كانون الثاني الماضي، عزوفه عن خوض المعركة الإنتخابية ترشحاً ومشاركة وعن تعليقه للعمل السياسي ووقف نشاط تيار المستقبل ضارباً عرض الحائط الزعامة الحريرية ومصير الطائفة السنية والوضع السياسي والاقتصادي الخطير الذي تمر به البلاد.
تعاطٍ لم تشهده الساحة السياسية في لبنان من قبل، ولأسباب أقل ما يُقال عنها غير مفهومة وغير مقنعة، مهما كانت الظروف، سياسية او مادية او أوامر خارجية او حتى امنية، لا تشكل سبباً لإنكفاء رئيس تيار سياسي بأهمية سعد الحريري عن ممارسة دوره الوطني، مع معارضة مناصريه وقيادييه لهكذا قرار وتداعياته على ابواب استحقاقات مصيرية مفترض ان يكون وتياره في الجبهة الأمامية منها.
غير مبالٍ بالنتائج التي ستترتّب من جراء انسحابه، وأولها أكثرية برلمانية لقوى الممانعة التي لم تكن لتحلم بها قبل انسحاب الحريري، والتي تعمل على قضم لبنان مرحلة تلو الاخرى ولا تخجل في المجاهرة بتغيير وجهه الحضاري والثقافي المنفتح والصديق لكل الدول العربية والغربية، وضمّه الى مجموعة الدول التوتاليتارية المتقوقعة خلف الايدولوجيات البالية.
هذه القرارات التي سبق ان مارسها في مراحل عدة منذ توليه القيادة عام 2005 التي لا تدل سوى على ان الرجل لا يمارس السياسة إلّا اذا كانت الأجواء مؤمّنة له، يعتكف ويغادر عند الصعوبات والعراقيل ومن ثم يعود بتنازلات استراتيجية أخذت البلاد الى المجهول.
لا بدّ ان سعد لم يقرأ تاريخ والده الشهيد رفيق الحريري الذي لم يكن ليترك استحقاقاً إلّا ويشارك به ولم يكن ليترك ظرفاً واحداً يمر دون اثبات زعامته وطمأنة مناصريه بأنه الى جانبهم في السرّاء والضرّاء.
هذا ما لم يفعله سعد الحريري، فمنذ اتفاق الدوحة عام 2008 وهو يقدم التنازلات تلوَ الأخرى من زيارة دمشق في الـ2009 الى مغادرته البلاد في الـ2010 اثر إسقاط حكومته وتأليف حكومة “القمصان السود” وهو غائب عن الطائفة السنية الى حين الفخّ السياسي الذي نصبه له دهاء جبران باسيل بتعويمه سياسياً بعد الـ “وان واي تيكت” مقابل انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية الى القانون الإنتخابي عام 2017.
وبغضّ النظر عن الوعود التي لم تتحقق ظلّ الشارع السني وفياً له، ونتائج الانتخابات الاخيرة اثبتت ذلك.
يعتبر سعد الحريري ان تياره السياسي تيار عائلي يتصرف به على هواه يفتحه ويقفله متى يشاء، وهذه اساليب كل الأحزاب العائلية، انما لم يصل احد من هؤلاء الأحزاب الى ترك 250000 الف صوت سني اقترع له في انتخابات 2018، مضيعاً الفرص لـ24 مقعداً نيابياً او اكثر من الفوز في انتخابات 2022 .
تعاطى على قاعدة الـ” لاهيك…ولا هيك… ولا هيك” في مرحلة تقديم الترشيحات، مما زاد في تفكك وضياع الشارع السني، فبَين من يرغب بالترشح وبين من يلتزم بقرار سعد الحريري، أوقع القواعد الشعبية السنيّة بين مطرقة قرار زعيمه وسندان الممانعة الذي سينعكس حكماً على أجواء الإقتراع، ففي حال التزم ما يقارب الـ 50% من ناخبي هذا التيار بعدم المشاركة، قد تكون نتيجتها تقديم حوالي اثنا عشر مقعداً نيابياً الى فريق الممانعة، ثمانية مقاعد من مقاعد تيار المستقبل وأربعة مقاعد لحلفائهم.
أمّا اذا استطاع زعماء الطائفة اقناع الناخبين بالإقتراع بكثافة الى مرشحين مقربين من الخط السياسي نفسه او الى القوى التغييرية قد يحدّ من الخسائر الحتمية.
فأمام قوى الممانعة المتراصة الصفوف وبين تفكك في القرار السني ومقاطعة في الاقتراع، ستشهد الأرقام تدنٍ في الحاصل الانتخابي الذي سيصب حتماً بزيادة مقاعد “الممانعة”، ليضيف الى سجلّه اخفاقاً جديداً لعام 2022 في سلسلة اخفاقات من حين توليه الزعامة الى حين انسحابه من الحياة السياسية.
بالرغم من كل ما سبق يبقى سعد الحريري الشخصية السيادية الليبرالية والزعيم الأقوى في الطائفة السنية، فقبل عزوفه كانت المعركة النيابية القادمة تدور حول 54 مقعداً شبه مؤكد لقوى الممانعة و56 مقعداً شبه مؤكد لقوى المعارضة، ليبقى التنافس محصوراً على 18 مقعداً نيابياً. أمّا بعد اعتكاف معظم مرشحي تيار المستقبل اصبحت المعركة تدور حول 42 مقعداً ليتصارع عليهم مرشحو القوى السيادية، والقوى التغييرية والثورية، ومرشحو القوى الممانعة، في ظلّ تخبّط وضياع في الشارع السني، فإمّا ان ينجح صقور تيار المستقبل من خلال حثّ الناخبين للإقتراع بكثافة لمن يرونه مناسباً والاستمرا ر بالمسيرة الوطنية التي من اجلها استشهد رفيق الحريري، وإمّا “مبروك” لحزب الله وحلفائه بالسيطرة الكاملة على المجلس النيابي.
هل سيعود سعد الحريري عن موقفه ويتدخّل أقله بتوجيه أصوات مناصريه لمن يراه مناسباً من المرشحين… أم سيبقى الهروب سيد الموقف؟
ch23