تسارع وتيرة المواجهة بين المودعين والمصارف في الداخل والخارج، وانفتاحها على كل الاحتمالات، بدأت ترسم طريقاً مليئاً بالمنعطفات. الطرفان المتنازعان لا يملكان “ترف” الرؤية الواضحة إلى أبعد من “أمتار” قليلة. فالقضية التي ظلت خامدة لأكثر من عامين تحت “رماد” الحل الشامل، إنفجرت في وجه الجميع مهددة بردود فعل لا “تطعم” المودعين “عنب” حقوقهم، بل “تميت” ما تبقى من أمل بحل منطقي.
المودعون، ومن خلفهم روابطهم وجمعياتهم، تعبوا من اللامبالاة واستنسابية المصارف في فرض ما يلائمها من تدابير وإجراءات، وقرروا ملاحقتها قضائياً ومعنوياً بكل ما أعطاهم القانون من قوة. من جهتها إستفاقت المصارف من “سكرة” الإطمئنان إلى “تلحفها” بتعاميم مصرف لبنان، وتسديد الودائع بالليرة أو بالشيك المصرفي، بوصفه وسيلة إبراء قانونية، على “فكرة” دعاوى في الخارج والداخل تلزمها بالتسديد النقدي بالعملة الأجنبية.
ما جرى مع فرنسبنك لجهة إلزامه بتسديد وديعة نقداً تحت طائلة الحجز على ممتلكاته وتصفيتها بالمزاد بقرار قضائي داخلي، وما حصل مع “عوده” و”سوسيته جنرال”، بالزامهما تحويل وديعة نقداً بقرار قضائي بريطاني، وما واجه “سرادار” لجهة تسديد حقوق مجموعة من المودعين أمام القضاء الفرنسي… ما هي إلا “قطرات الدماء” التي ستجذب “قروش” الدعاوى من كل حدب وصوب للانقضاض على جميع المصارف”، يقول أحد المصرفيين الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، فـ”عندما تُسجل سابقة في القضايا القانونية، تكر السبحة ويصبح الممنوع مباحاً”. والمشكلة برأيه أن “المصارف قد تملك بين الداخل والخارج 3 أو حتى 5 مليارات دولار نقداً. وقد ترفع تصفية جميع موجوداتها الرقم إلى 12 أو 15 مليار دولار. لكنها على الأكيد لا تملك 134.5 مليار دولار، منها ما يقارب 103 مليارات دولار بالعملة الاجنبية، لتسديد كامل حقوق المودعين. فالاموال تم إقراضها للدولة، ووضعها في مصرف لبنان. وبالتالي مهما اتخذ من قرارت قضائية لن يكون باستطاعة المصارف تلبيتها على قاعدة “بدك منا وما معنا”. فهل بهذه الطريقة تصل حقوق المودعين؟”.
المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن يعتبر أنه “بالرغم من ضخامة ما يحدث، لم يتبلور لغاية اللحظة أي حل جدي للأزمة، ومن الصعوبة بمكان أن تبصر النور تسوية منطقية. فحتى الكابيتال كونترول الذي ينادي به البعض بوصفه العلاج السحري لتنظيم العلاقة التعاقدية بين المودعين والمصارف، لا ينفع إن لم يأت من ضمن الخطة الشاملة. ولا سيما أنه لم يعد هناك من رساميل في القطاع المصرفي لتنظيمها”. وبهذا المعنى سيكون الخاسر الأكبر مرة جديدة هو المودع. الخازن الذي يقول إن “أموال المودعين لم تذهب كلها إلى إقراض الدولة، إنما هُدر جزء غير قليل منها على عمليات توسّعها في الداخل والخارج، وتزيين نفسها بأفخم المباني والفروع”؛ ويعتبر أن “أموال المودعين من الصعب حالياً أن تعود مهما رفعوا من دعاوى، وحكم القضاء لصالحهم”. ومن غير المستبعد من وجه نظره ان “تعمد المصارف الى حماية نفسها عبر خلق حجج للاقفال. وبالتالي تتوقف كل أشكال تسديد الودائع والمستحقات من رواتب وفوائد للمودعين والمتعاملين معها، ويتم صرف موظفيها. وبهذا يكون القضاء قد قدم خدمة للمصارف تتلهف للحصول عليها”. إنطلاقاً مما تقدم يرى الخازن أن “الحل لن يكون إلا على طريقة “تبويس اللحى” اللبنانية، بمعنى تكبير المشكلة وتخويف المودعين من الأسوأ في حال استمر الضغط على المصارف، والوعد بأن يأتي الحل من ضمن الخطة الشاملة. فتعود الأمور إلى سابق عهدها ويجلس الجميع ينتظر معجزة التوافق والبدء بتنفيذ خطة التعافي”.
في سابقة ليست بعيدة زمنياً، أبطل مجلس شورى الدولة في حزيران 2021 مفعول التعميم 151 الذي يحدد سعر صرف الدولار على المنصة بـ 3900 ليرة لبنانية، على خلفية طلب تقدم به بعض المحامين. فما كان من المصارف إلا أن توقفت عن تسديد الودائع بالدولار على أساس 3900 ليرة، والعودة إلى التسديد على سعر صرف 1500 ليرة، بوصفه السعر الرسمي الوحيد المعتمد، مستفيدة من عدم وجود نص يجبرها على التسديد بالدولار على أساس أن الليرة اللبنانية عملة إبرائية. وأمام هذه “الهمروجة” أُسقط قرار “الشورى” من بعبدا، وعاد الجميع فرحين إلى قبض دولاراتهم بهيركات 70 في المئة، بدلاً من 90 في المئة”. فهل مثل هذه الخطوات ستنسحب على قرار محكمة التنفيذ الأخير بحق فرنسبنك، أم أن القرار (السابقة) سيكمل على بقية المصارف؟
تجيب عضو الوحدة القانونية في “رابطة المودعين” المحامية ديالا شحادة أنه “فور تبلغنا بمصادقة محكمة التمييز على قرار القاضية مريانا عناني بالحجز التنفيذي وبيع موجودات مصرف فرنسبنك، وعدم اعتبار الشيك وسيلة للإيفاء، بدأنا نحضر لاجراء جماعي لطلب الحجز على مصارف أخرى مختلفة، لمصلحة مجموعة من المودعين الذين يستفيدون من خدمات رابطة المودعين”. وبرأي شحادة “ينبغي على المودعين ألا يخافوا من حملات التضليل التي يقودها البعض، والتي تعتبر أن تحصيل حق مودع سيضر بحقوقهم. فالذي حدث في الأمس القريب مع فرنسبنك يعتبر أول نصر حقيقي عام ممكن أن يستفيد منه كل المودعين. وبامكان أي مودع في المصرف الذي يلقى عليه حكم الحجز التنفيذي لتحصيل وديعة، أن يبادر إلى طلب اشتراك بالحجز التنفيذي لتحصيل وديعته أيضاً”، الامر الذي “سيشجع المودعين على اللجوء أكثر إلى القضاء الصحيح لتحصيل حقوقهم”، من وجهة نظر شحادة، “خصوصاً بعدما أثبتت الأحداث فشل الرهان على الخطط الشاملة، أو على مبادارت الحكومة ومجلس النواب اللذين يحمّلان في حلولهما المودع نفس مسؤولية المصرف والدولة لجهة الخسائر”.
التحجج بعدم وجود سيولة تكفي لتسديد ودائع جميع المودعين، والتخويف من تسبب إجراءات من هذا النوع بافلاس المصارف، وصرف موظفيها، وعدم حصول المودعين على أي حق من حقوقهم… تصفه شحادة بـ”عملية التخويف الممنهجة”. فبرأيها “عدم كفاية الموجودات لسداد الودائع هي مشكلة المصرف وليس المودع. وفي حالة التخلف عن السداد تباع كل موجودات البنك في الداخل، وتلاحق تلك الموجودة في الخارج. كما ويلاحق أصحاب المصرف وأعضاء مجلس الادارة بأموالهم الشخصية”. والكلام عن اتجاه مصارف عن إعلان تخلفها عن الدفع، بما يؤدي إلى إعلان إفلاسها، فهو “نتيجة طبيعية لأي بلد يواجه فوضى عارمة في عدد وكمية وطريقة عمل قطاعه المصرفي”، من وجهة نظر شحادة، “كما أن قوانين الافلاس وضعت لمثل هذه الحالات التي لا يعود فيها المصرف أو المؤسسة المالية قادرة على السداد”.
المودعون مصيبون بكل دعوى تقام على مصرف لانتزاع حقوقهم، ولكن نضالهم كان ليتكلل بالنجاح، لو أن مصرفاً أو اثنين أو حتى ثلاثة متعثرة. إنما مع تعثر القطاع برمته ومن خلفه الاقتصاد والدولة والمؤسسات، فان “الحلول بالمفرق من الصعب أن تكون منصفة، وأن تأتي بحقوق المودعين والمواطنين جميعاً وتنصفهم على الامد البعيد”، تحليل يختم به أحد المتابعين للملف عن كثب.
في غمرة الاحداث أعيد فتح الباب واسعاً أمام “الكابيتال كونترول” بوصفه المنظم للعلاقة بين المصارف ومودعيها. إلا أن ما يغيب عن بال الكثيرين أن المصارف كانت الرافض الأكبر له، وقد استمرت حتى نهاية العام 2021 بعرقلة كل الجهود التي قادتها لجنة المال والموازنة النيابية لاقرار القانون. إذ ضيعت المصارف “اللجنة” بتقديرات كلفة القانون التي بدأت بـ4 مليارات دولار، ثم ارتفعت إلى 6.4 مليارات، وأخيرا إلى 8.8 مليارات دولار. كما لم توافق المصارف على سقف التحويلات الاستثنائية إلى الخارج. وقد خفضته من 50 ألف دولار إلى 20 ألفاً، ومن ثم إلى 10 آلاف دولار فقط، بحجة عدم امتلاكها السيولة النقدية. مع العلم أن المصارف بحسب مصادر لجنة المال والموازنة تملك في الخارج رساميل لا تقل عن 10 مليارات وهي مقسمة على الشكل التالي:
– قروض معطاة في الخارج منذ العام 2017 بحوالى 7 مليارات دولار وهذه المبالغ تستحق عليها أقساط شهرية تدفع بالدولار النقدي أو اليورو أو خلافه.
– هناك تحويلات جرت منذ العام 2019 ولغاية شباط 2021 بلغت 245 مليون دولار.
– جمعت المصارف بحسب التعميم 154 (تكوين سيولة بنسبة 3 في المئة لدى المصارف المراسلة من مجموع الودائع بالدولار) ما لا يقل عن 3.4 مليارات دولار، باعتبار أن مجموع الودائع في منتصف العام 2020 بالعملة الأجنبية بلغ حوالى 114 مليار دولار.