لم يَعِش ولم يعرف اللبنانيّون أقسى من هذه الايّام. حتّى السّماء التي تُغدق بالنّعم حين تشتّدُ الصّعاب لم ترحَمهم ولم ترأف بحالهم. كيف يفرحُ المُزارع ببشرى الأرصاد حين لا يدري إن كان سيعيشُ حتّى حلول زمن الحصاد؟
ثلاجةٌ كبيرة يعيشُ فيها كلُّ من يفترش لبنان أرضاً ومسكِناً وموطِناً له. حتّى أنّ المعمّرين والمُسنّين الذي يتباهون بما عاشوه وعرفوه من سنوات قاسية، عجزوا عن سرد قِصَصِهم الباهتة مع العواصف والأزمات والحروب والكوارث التي عاصروها. لا شيء يُشبه ما يحصل اليوم. لدينا الكثير لنُخبره يوماً ما، إن عشتم وعشنا.
في ثلاّجة البرد القاتل يقبع اللبنانيّون والنازحون واللاجئون معاً في زمن أصبحت فيه مُختلف وسائل التدفئة ترفاً وحُلماً صعب المنال. أضحت المنازل كالمُخيَّمات، عائلاتٌ تعيشُ في غرفةٍ واحدةٍ وفي عتمةٍ دامسةٍ وفي صقيعٍ قاتلٍ بانتظار أن تنتهي سبحة العواصف الجوية. حتّى تسمياتها المُختلفة أصبحت أشبه بنكتةٍ سمجة. حتى “الجنرال” الأبيض لم يعُد محبوباً هنا، الكلُّ ينتظر أن يُلملم بساطه ويرحل.
في ثلاّجة الانتظار وُضِع مصيرنا، ولكن ننتظر مَن، وماذا؟ هل ننتظر أن يستيقظ حكّامنا من سباتهم العميق؟ أم ننتظر أن تُغيِّر الانتخابات في الوجوه التي لم تجلب لنا سوى النّحس بكلّ أشكاله؟ أم ننتظر أن تنتهي حربٌ هنا، ومُفاوضات هناك، وأن يُدرج لبنان على جداول أعمال رؤساء عواصم القرار في وقت يغيبُ فيه عن اهتمام الزعماء والسياسيّين اللبنانيّين؟
في ثلاّجة الموت تركنا أحلامَنا وأمنياتنا وأعمالنا وشهاداتنا ومشاريعنا، تركنا فيها أجزاءً وأشلاءً منّا قد لا نجدها إن عُدنا لنبحث عنها يوماً، لنحمل ما تبقّى منها الى مثواها الأخير. في هذه الثلاّجة أيضاً، تركنا كلّ ذرّة ونبضة من الأمل، كلّ جينٍ ينتفضُ للحياة، كلّ ثورة فارت كالبركان وهمدت موتاً فجائياً الى الابد.
ثلاثُ ثلاجات تختصر مصير شعبٍ لا تبحثوا عنهُ بعد اليوم.
رحل المزارعُ باكراً قبل موسم الحصاد. السّماء أعطَت، السّماء أخَذَت، ولكن… لن يبقى من يحصُد هنا.
المصدر : جيسكا حبشي – ام تي في